01 - 06 - 2025

«داود باشا» غريب الدارين ومأساة الهوية الممزقة في الدراما المصرية

«داود باشا» غريب الدارين ومأساة الهوية الممزقة في الدراما المصرية

حين صاغ نجيب محفوظ شخصية «داود باشا بن يزيد المصري» في روايته «حديث الصباح والمساء»، ترك ملامحها الأولى مفتوحة على احتمالات عديدة كما هو الحال مع جميع أبطالها، في رواية تحكي تاريخ خمسة أجيال من أسرة يزيد المصري، منذ دخول الحملة الفرنسية حتى ثمانينيات القرن الماضي.

يحكي نجيب حكاية دواد في نقلات سريعة بين خطفه وهو طفل، بأنه قد «وقع داود في مصيدة التعليم ونجا عزيز بمعجزةٍ ظلَّ يحمد الله عليها حتى آخر عمره».، ثم سفره إلى فرنسا وعودته منها طبيبًا، ليجد والديه قد توفيا في غيابه، ومن تقدمه لخطبة إحدى بنات الأتراك «تركية بدرب قرمز «آل رأفت»فأشار إليهم قائلًا:  لعلهم يرضَون لبنتِهم بطبيبٍ عائدٍ من فرنسا»، «لكن داود رُفِض باعتباره فلاحًا حقيرًا، ولم يشفع له علمه ولا زيُّه ولا وظيفته وتألَّم الشابُّ»، فتم تزويجه أسرة الوراق، أسرة من أصلٍ مصري شامي، ووجدوا ضالتهم في حفيدة الوراق الكبير سنية الوراق، الذين رحَّبوا بالعريس، وتمَّ الزفاف، ومضى داود بعروسه إلى بيتٍ جديد بالسيدة، وقد أنجب منها ولدًا - عبد العظيم - وثلاث بناتٍ اختطفهن الموت صغارًا.

كان هناك توافَق بين داود وزوجته فرغم جمالها ودرجتها الاجتماعية وتعليمها الأوَّلي الساذج، لم تكن تختلف اختلافًا جوهريًّا عن أُمِّه فرجة السماك، ولا عن زوجة أخيه الأكبر نعمة المراكيبي.

ويكشف نجيب أن دواد لم يتحرَّر من تقاليد الأسرة والبيئة، فكان يزور بيت الغورية بدافع الحب والواجب معًا، وهناك ينسى شخصيته المُكتسبة تمامًا فيجلس إلى الطبلية ويأكل بشراهةٍ السمك والطعمية وثريد العدس والفسيخ والبصل الأخضر، ويتابع بعين العطف والمودة النامية بين عبدالعظيم من ناحية وبين رشوانة وعمرو وسرور من ناحية أخرى، ويزور الحُسين...، في تلك الأوقات كان يرتد إلى داود الأول ابن يزيد المصري وفرجة الصياد، ابن الغورية وروائحها الذكية النافذة ومآذنها السامقة ومشربياتها المُسربلة بالتاريخ»

ولمَّا بلغ الدكتور الباشا الخمسين، عشِق جاريةً سوداء، وتزوَّج منها، مُحدِثًا في الأسرة دهشة ومُثيرًا أقوالًا. وقد اختار لها مسكنًا خاصًّا في السيدة. ويختم محفوظ قصته بأنه امتدَّ به العمر حتى عصر الاحتلال وعاصَرَ مع أخيه الثورة العرابية، وأيَّداها بالقلب، وتجرَّعا مرارة سقوطها، ورحل الشقيقان في عامَين متعاقبَين في أوائل عهد الاحتلال، ودُفنا جنبًا إلى جنبٍ في القبر الذي افتتحه يزيد المصري، حلَّت بجناحه الحريمي فرجة الصياد، ونعمة عطا المراكيبي وسنية الورَّاق، والجارية آدم في قبرها الخاص.

لم يكتف نجيب بهذه الترجمة الصغيرة لداود وجاء جانب آخر منها في ترجمته لابنه عبدالعظيم فيصف والداه - أي داود باشا - بأنه «أب يُعتبر من الرجال المعدودين في عصره». وكذلك «خالط - أي عبدالعظيم -الأجانب من أقران أبيه الذين كثيرًا ما تناولوا عشاءهم على مائدته وتبادلوا الأنخاب. تقلَّب بين التراث والمعاصرة». هذه الحياة الإفرنجية طغت على أسرة داود فينقل محفوظ عن ذلك «إذا ذهب عمرو إلى فيلَّا السرايات فتواتيه غُربة في الجو «الإفرنجي» الذي يسود السلوك والعادات، من ذلك أن عبد العظيم باشا كان يفتح شهيته عادةً بكأسَين من الويسكي، أو يخاطب كريمتَيه فهيمة وعفَّت أحيانًا بالفرنسية!».

ذلك الاغتراب يمتد إلى جيل الأحفاد، فقد تعلمت عفَّت ابنة عبدالعظيم باشا بن داود باشا بن يزيد المصري الفرنسية والإنجليزية والآداب وفن البيت والموسيقى، وتشرَّبت روحها بتراثٍ غريب حتى لَيُخيل للرائي أنها إفرنجية ذوقًا وعقلًا وتراثًا. ومع أنها لم تنطق بكلمة تخدش إيمانها إلا أنها عاشت حياتها وهي تجهل دِينها وتُراثها جهلًا تامًّا، ولا تجد في ذاتها أي انتماء إلى وطنها رغم مُعايشتها لثورة ١٩١٩، لولا تعصُّب سطحي لموقف أبيها السياسي انطلقت إليه من منطلق الكبرياء والأسرة

هذه الشخصية التي رسمها محفوظ روائيًا في أجزاء متناثرة من روايته كما رأينا لم تكتمل إنسانيًا إلا عندما أولاها محسن زايد في معالجته الدرامية للتلفزيون عناية استثنائية، نفخ فيها من روحه، حتى تحوّلت إلى واحدة من أكثر الشخصيات حضورًا وعمقًا في تاريخ الدراما المصرية، مضربًا للأمثال ومجالًا للقراءات الممتدة، مغيرًا الكثير من التفاصيل بها.

في أيام الجامعة، كنتُ أربط بين داود وشخصيات أخرى جمعت بين التمزق الثقافي والاغتراب الداخلي، وهم «إسماعيل» في «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، و«مصطفى سعيد» في «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح. وأضيف ثالثهم «داود المصري» كما صاغه محسن زايد في المسلسل، جميعهم أبناء ثقافات مهجّنة، عاشوا تمزق الانتماء بين المشرق والغرب، بين الأصل الشعبي والطبقة الجديدة، بين ما نشأوا عليه وما حُمّلوا به بعد التعلم والسفر.

لكن ما يجعل داود المصري حالة درامية متفردة، هو أن معاناته ليست فقط نفسية أو ثقافية، بل اجتماعية الطبقات بامتياز. خُطف صغيرًا على يد عساكر الوالي، فاقتُلع من بيئته الأصلية في الغورية، ثم عاد إليها لبرهة قبل أن يسافر إلى فرنسا لدراسة الطب. عاد متعلمًا ومثقفًا، وترقّى في السلّم الاجتماعي حتى نال الباشوية، لكنه ظل يعاني من شرخ داخلي لم يلتئم.

فهو ابن العطار وفرجة السماكة، لكنه في الوقت ذاته طبيب متعلم من فرنسا، يعيش بين طبقتين لا ينتمي تمامًا لأي منهما. هذا الانقسام يتجلى حين يتقدم لخطبة فتاة تركية تُرفضه بسبب أصله، فيضطر للزواج من سنية الوراق هانم، التي قبله أهلها بوصفه مشروعًا اجتماعيًا واعدًا.

لكن داود، رغم ترقّيه الظاهري، ظل يحمل داخله الغورية، قيمها، لغتها، ناسها. ينفجر هذا التناقض في مشهد مفصلي حين يرقص الخديوي مع زوجته، فلا يتذكّر تعليمه ولا مكانته الجديدة، بل يعود لا شعوريًا إلى جذوره، إلى ما نشأ عليه من مشاعر. وحين يتزوج من الجارية السوداء «جوهر»، يعلن تمرده النهائي على القيم الطبقية والتمييز الاجتماعي، ويصدم من حوله بقرار لم يكن متوقعًا من باشا.

أحد أهم المشاهد الرمزية في المسلسل، مشهد الباشا وهو يجلس يستمع إلى سيمفونيات بيتهوفن، بينما تجلس جاريته تمسك له النرجيلة التي يدخن منها. مشهد بليغ يصور مزاجه المتشظي: بين الموسيقى الغربية الكلاسيكية وطقوس الحارة المصرية، بين الأرستقراطية والطبقة الشعبية، بين العقل والحنين.

وتبلغ درامية الشخصية ذروتها حين يُعيد محسن زايد توظيف قصة الحب القديمة: بعد وفاة عطا المراكيبي، يتقدم داود لخطبة هدى هانم، حبّه القديم، في إحالة ذكية إلى رواية «الحب في زمن الكوليرا»لكنها ترفضه، لتزيد من مأساة غربته، رغم أنها الوحيدة القادرة على فهمه بسبب ثقافتها وأسفارها.

ويصل المسلسل إلى قمة إنسانيته في مشهد مؤثر، حين يُصر داود على رؤية حفيداته من ابنه، ويحتضن إحداهن باكيًا. هذا المشهد يكتسب بُعدًا أعمق لمن يقرأ رواية محفوظ، التي تخبرنا أن داود أنجب ثلاث بنات توفين وهن صغيرات. لو أشار المسلسل إلى هذا الحدث، لتحوّل المشهد إلى لحظة إنسانية نادرة، تحفر في الوجدان.

يبكي وهو يحتضن حفيدته، لا لأنه يرى فيها امتدادًا لابنه فحسب، بل لأنه – ولأول مرة – يرى فيها ملامح بناته الراحلات.

حُكم على داود أن يظل غريب الدارين: لا الأرستقراطية تتقبله تمامًا، ولا طبقته الأولى تعيده كما كان. في النهاية، ينسحب من العالم، ويعود إلى الغورية، باحثًا عن السلام في حضرة آل البيت، في الموالد والحضرات، في التصوف الشعبي، حيث يجد في أحضان التصوف سكينة غابت عنه طويلًا.

لم يكن داود باشا بن يزيد المصري، ابن فرجة السماكة، مجرد شخصية درامية ناجحة في حديث الصباح والمساء، بل كان تجسيدًا حيًا لصراع الهوية في مصر الحديثة. هو ابن الصعود الطبقي - الإجباري في حالته - والتمزق بين الأصالة والمعاصرة، بين الجذور التي تربى فيها، والفروع التي انتُزع إليها بالقوة. شخصية مفتوحة على التأويل، مشروخة في صميمها، تتأرجح بين عالمين لا يجد في أيٍّ منهما وطنًا.

اختُطف من تناغم الطبقات الشعبية، من سكينة الحارة وعفوية الحب الطفولي، إذ نشأت بينه وبين «نعمة» قصة حب بريئة وأصيلة، وحياة كان من الممكنأن تمتد في مسارها الطبيعي. لكن عساكر الوالي خطفوه كما خُطفت طفولته، وحرفوا مسار حياته نحو طريق يُفترض أنه أفضل اجتماعيًا، لكنه على المستوى النفسي كان كابوسًا ممتدًا.

ذلك الاختيار الذي لم يكن له يد فيه، مزّقه تمامًا، وجعل منه شخصية لا تعرف لأي طبقة تنتمي، ولا بأي قيم تعيش. عاش غريبًا، ومات غريبًا، لا هو من طبقة الباشوات حقًا، ولا هو ابن الغورية كما كان. تمزّق داخلي لا تلمّه المناصب ولا يشفيه التعليم ولا السفر، بل زاده تعقيدًا.
----------------------------
د. عبدالكريم الحجراوي