- الثالثة من نوعها لمحمد حربي بعد يارا سلام وأشرف فياض
في يناير الماضي، على صفحته على الفيس بوك دشَّن الشاعر والكاتب محمد حربي مبادرة بعنوان: «سنحرر شاعرًا بقصيدة»؛ دعمًا للكاتب والشاعر أحمد سراج في أزمته الأخيرة. تهدف المبادرة إلى التضامن شعريًّا وجماليًّا مع سراج في محنته، غير معنية بتسييس القضية، علمًا بأن هذه المبادرة هي الثالثة من نوعها التي يطلقها محمد حربي؛ دعمًا لأصحاب المواقف، فالأولى كانت دعمًا لابنة الشاعر رفعت سلّام في أزمته، والثانية: وقوفًا مع الشاعر أشرف فياض.
المبادرة اتخذت من الشعر وسيلة للتضامن، وأكدت منذ بدايتها أنها ليست ذات طابع سياسي؛ بل تهدف إلى دعم رمزي وأخلاقي، من خلال النصوص الشعرية.
يذكر حربي أن مبادرته تهدف إلى تحرير شاعرين في الوقت نفسه، الشاعر المسجون من مشاعر الوحدة والعزلة والحزن التي يعانيها، وكذلك تحرير الشاعر كاتب القصيدة من مشاعر الخوف، وتحريره من حالة الصمت.
يقول حربي: "ليس مطلوبا من المبدعين أن يكتبوا خصيصا لأحمد سراج فالشعر لا يكتب بالأمر أو بإطلاق المبادرات ولذلك كنت واضحا منذ البداية. وطلبت من الأصدقاء إهداء بعض نصوصهم إلى الغالي سراج، لا تكتب نصا سياسيا فقط اكتب قصيدة حب واهدها للصديق، فالحب مقاومة اكتبوا عن الاشجار والطمي الذي صنع البلاد وعن البلاد التي لا تزال تعشق النهر، واكتبوا عن العصافير التي تعشق الحرية، لا تخافوا من قصائدكم القديمة فهي لا تزال صالحة لإثارة الدهشة وفتح الباب لمحبة كبيرة تجمعنا وتحررنا اكتبوا واكتبوا، وأخرجوا نصوصكم القديمة بلا خوف، قديمكم يتجدد، أعرف أن الكثيرين منا في بيات شعري بسبب ما تعانيه المنطقة من عدوان صهيوني وعجز عربي، لكن القصائد القديمة صالحة دائما كهدية للحرية، فقط اجعلوا القصيدة الحرة هديتكم إلى الشاعر الحر أحمد سراج، حرروه من صقيع الحبس وحرروا أنفسكم من صقيع الخوف، كونوا أحرارا فقصيدتكم حرة، ونحن لكم قارئون"
وشارك في «سنحرر شاعرًا بقصيدة» دعمًا لأحمد سراج، 30 شاعرًا حتى الآن، بـأكثر من 50 نصًّا شعريًّا حتى الآن. شارك فيها شعراء من مصر، وامتدت إلى شعراء من الوطن العربي؛ مثل: الشاعر السوري فواز القادري، والعراقي يحيى الشيخ.
تولى محمد حربي نشر هذه القصائد على صفحته الخاصة. ومن يتأمل عناوين هذه القصائد سيلاحظ البعد الجمالي لهذه القصائد، وهو ما يؤكده مضمونها، وتنتمي هذه النصوص إلى ما يمكن تسميته بأدب التضامن؛ إذ تعكس مواقف أخلاقية وإنسانية داعمة لفكرة الحرية، كما تعبّر عن الرفض الرمزي للقمع. وقد جاءت بعض القصائد في شكل بيانات شعرية، بينما لجأ بعضها الآخر إلى الرمزية والأسطورة، وبخاصة الأسطورة المصرية القديمة المتعلقة بالإلهة "ماعت" ربّة العدالة، التي يُوزن أمامها قلب المتوفى مقابل ريشة الحق، وهي أعمال جديرة بأن تضم في ديوان يجمعها، بما تشكله من روح محبة مفعمة بالجمال والنبل. كان الشاعر محمد حربي هو الأكثر مشاركة فيها بثلة من القصائد، تستحق دراسة وحدها.
وفيما يلي قائمة جرد لمن وصلت إليهم من المشاركين في المبادرة، وفقًا للترتيب الزمني من الأقدم للنشر في الحملة وصولًا إلى الأحدث:
«أنا بخير» و«قبلة أخرى» و«ارسم شجرة» لأسامة حداد، «إلى متى» لمجدي أبو الخير، «الفتى القروي» لأسامة البنا، «الحرية على الطريق تشرب الشاي مع عشاقها» للشاعر السوري فواز القادري، «بعد الغروب» و«أوغاد» و«موسم البرتقال» لعبد الله راغب أبو حسيبة، «حشائش النار» لمحمد عكاشة، «حقائب التلاميذ» لرضا أحمد، «اخرج عليهم من باب القصيدة» لسامي البلشي، «الشعر فاجعتك» بتوقيع *ادموند جابس شاعر مصري فر إلى باريس، «تأملوا بلاطة لأجلي» لسيد فرج الشقوير، «سيوف تقطر دمًا» و «ولهذا تكبل» و«حاول أن تغني» و«متهم استثنائي» للعراقي يحيى الشيخ، «مسيح مبتدئ» و«لا وقفة ولا مخاطبة» «اعتقال المجاز»، »نصوص لم تكتمل»، «ما نسيته أسطورة عن حصان»، «قصائد منسية»، «أبحث عن شيطان أخضر»، «الثورة كافرة» و«رقصة السؤال» لمحمد حربي، «حين يرتجلون صمتك» لهشام حربي، «ريش الحكمة الملون» و«أنشودة المخفر» لمؤمن سمير، «من سيرة مواطن عادي» لعماد غزالي، «تفاصيل» لممدوح التائب، «في كل مدينة» لسامح قاسم، «اختيار» لنادية محمد، «نعم فعلتها» لعربي كمال، «أغرقت خارطتي» ليونان سعد، «سقوط» لرانية خلاف، «في الزنزانة» لعبدالرحمن مقلد، «شكرًا لك أيتها الطيبة» لكمال أبو النور، «لا سيف يُسْلَطُ فوق الرقاب سيبقى» لمجدي شندي.
حملت هذه القصائد روحًا هادرة بالمحبة، تتغنى بقيمة الحرية، وكثير منها ربطت موقف الشاعر أحمد سراج بموقف المسيح - عليه السلام - برؤى مختلفة الذي صلبه قومه، كما أنها ربطت بين موقف الشاعر والإرث الحضاري العظيم، في مصر، وفي بلاد الرافدين، وفي بلاد اليونان. وبعضها الأخرى ربطها بوظيفته كمدرس بوزارة التربية والتعليم.
ومن أكثر الصور الشعرية التي لفتت انتباهي في قصائد الشعراء، استلهامهم لمبادئ ماعت، فعندما يقف المتوفى أمام محكمة الموتى، المكونة من 42 قاضيًا يمثلون أقاليم مصر المختلفة، برئاسة أوزير رب الموتى - حسب عقيدتهم - يقوم المصري بسرد أعماله الحسنة، و يتبرأ من أعماله السيئة؛ مثل : السرقة، و القتل، وتلويثه مياه النهر المقدسة، وبعد ذلك كان يوضع القلب المتحدث في إحدى كفتي ميزان العدالة، وفي الكفة الأخرى توضع ريشة تمثل المعبودة «ماعت» ربة الحق والصدق والعدالة - حسب المعتقد-؛ لتكون النتيجة إما الجنة والخلود الدائم، وإما أن يلقوا قلبه لهذا الحيوان المفترس، الذى يجلس أسفل الميزان، ليلتهمه وليكون مصيره الفناء.
وفي هذه المحكمة كان المصري حريصًا على ذكر أنه لم يلوث مياه النهر؛ لأن هذا الإقرار هو من أهم شروط دخوله الجنة، ويكتب له الخلود.
جرى توظيف هذه الأسطورة في أكثر من قصيدة من القصائد المدافعة عن أحمد سراج؛ للإشارة إلى فطرته البريئة، ونبل تصرفاته، فيقول الشاعرعبدالله راغب أبو حسيبة: «فأنا لم ألوث ماء النيل.. ولم أترك غبار ركية الشاي تغلق باب السماء.. أنا لم أبدل قلمي ببندقية أو بلغم.. كنت فقط أحضر الأرض لموسم البرتقال» فنحن في هذا المقطع أمام شاعر يتسم بالبراءة، فلاح فصيح من طين هذه الأرض، لا يملك سوى قلمه الذي سخره من أجل الحق، والخير، والجمال، ولم ينتهج العنف منهجًا، ومحب لبلاده.
ويقول الشاعر أسامة حداد: «أنا بخير.. لا أشغل حيزًا في الفراغ.. ولا ألوث الهواء الفاسد.. لم يطالع أحدهم هويتي.. تركني الشرطيون أمرّ.. وسمح الطريق بعبوري جسده المتورم.. أنا بخير.. ظلي لا يتابعني» فنحن هنا أمام مقطع يحمل الكثير من روح التهكم؛ يقول شيئًا ويعني أمرًا آخر، يتكئ على الأسطورة المصرية القديمة (لم ألوث الهواء؛ لأن الهواء بالفعل فاسد)، يقول إنه بخير لكن الواقع يكذب ذلك، فنحن أمام جسد متورم من التعذيب تحول إلى شبح، فقط الأشباح هي التي لا يكون لها ظل. فالقصيدة تحمل نقدًا لاذعًا لواقع أليم يمر به كثر، لكن عبّر عنه بلغة شعرية بديعة غنية، تقول الكثير دون أن تصرح.
واستلهم الأسطورة نفسها الشاعر كمال أبو النور «شكرا لك أيتها الطيبة» (تذكَّر أنكَ كنتَ طفلًا كمرآةٍ صافيةٍ.. كانت الطيورُ المهاجرةُ صديقةً لنافذتِكَ.. تطعِمُ الثعابينَ في جحورِها.. لم تكسرْ يومًا عينَ وردةٍ.. ولا لوثتَ نهرًا.. وليست لك أغصان سرية».
بداية من اسم القصيدة، الذي يعبر عن نبت سراج الطيب؛ لأنه ابن أرض طيبة، صافٍ كالمرآة، صديق للطيور، لم يكسر وردة، ولم يلوث نهرًا، واضح وضوح الشمس لا يملك ما يخفيه.
ويستلهم الشاعر سامي البلشي قصة علي بن أبي طالب، وفدائه للنبي - عليه الصلاة والسلام - ويسقطها على الشاعر أحمد سراج، فيقول: «سأنام في فراشك هذه الليلة.. ألتحف بأنفاسك المتقطعة.. وأحلم بالصباح في ليالينا المعتمة.. سمّ الله واخرج.. لا تسلك الباب الذي صنعوه.. ولا الشباك المضفر بالحديد.. انظر يمينك واقرأ ما تيسر .. تحسس الكلمات.. واخرج من الباب الذي تشكله القصيدة»
لأن باب القصيدة أرحب، ولا يمكن سجنه أبدًا.
وكذلك اتسمت قصيدة سامح قاسم بعذوبة شديدة، فيقول: «في كل مدينة، ثمة من يجلسُ عند الأطراف، لا يزرعُ، لا يحصدُ.. لكنه أولُ من يمدُّ يدهُ إلى الوليمة.. هم لا يصنعون النار، لكنهم أولُ من يشوي ضحاياه.. لا يكتبون الشعر، لكنهم يتذوقون دموع الشعراء.. لا يحفرون القبور، لكنهم يملؤونها بالموتى.. إنهم آكلو الجيف.. يقتاتون على ما تهشَّم.. على ما تخلى عنه الضوء.. على ما لفظه الحب.. وما أنكره الزمن.. تراهم في الحروب يفتحون الأفواهَ لا ليصرخوا؛ بل ليبتلعوا الرماد.. تراهم في السلام يحملون السكاكينَ؛ بحثًا عن جرحٍ طازج.. يكتبون تاريخًا بلا شهود.. يغلقون الأبوابَ أمام الحقيقة.. يقتسمون الخيانةَ كخبزٍ يابس.. ثم يضحكون ويقولون: هكذا كُتب علينا أن نحيا.. لكنّ الحياةَ بريئةٌ منهم، كما الأشجارُ بريئةٌ من فؤوس الحطّابين.. كما البحارُ بريئةٌ من عطش القرى.. وكما السماءُ بريئةٌ من كلِّ من صلى إليها.. ثم قتل».
تتميز هذه القصيدة بكثافة رمزية عالية، ولغة شعرية عذبة، لكنها دامية في الوقت نفسه، ترسم صورة قاتمة لجماعة تمتهن "أكل الجيف"، تعيش على خسائر الآخرين، لا تشارك في البناء، وتقتات على الخراب. قصيدة تنتمي إلى شعر المقاومة والمجابهة، تخلو من المباشرة، تُدين بصوت عالٍ الفساد والخيانة، تُعرّي الواقع الفاسد دون صراخ.
كما أن عددًا من النصوص المشاركة في المبادرة ربطت بين واقعة سجن أحمد سراج، وبين فشل ثورة 25 يناير، واعتبرتها تجسيدًا لضياع الحلم الجمعي، وموت المعنى. من أبرز هذه النصوص: قصيدة «نعم فعلتها» للشاعر العربي كمال، والتي يقول فيها: «لا أحد يهرب من حقيقته.. وحقيقتي أنني - أيضًا - لستُ نصفًا؛ بل رجلٌ ميتٌ.. مُذ أخذوا نصفهُ.. حبيبتهُ.. أغنيته.. ثورتهُ، وتركوه مشطورًا.. فمات!
ما تشاهدونه الآن هو ظلي.. ظلي الذي يكابر.. ظلي الذي يخجلُ من الاعترافِ بموتِ صاحبهِ».
في هذه القصيدة، يحضر الظل كرمز للبقاء الزائف، عن إنسان لم يتبقّ منه سوى الأثر، بعد أن فُقد جوهره وروحه الإنسانية؛ عبر مصادرة أدوات وجوده: الحب، والغناء، والثورة. وتتحوّل هنا الحالة الفردية الشخصية إلى شكل أوسع وأشمل، يمثل الإحباط الجمعي لجيل كامل آمن بالتغيير عبر الثورة، لكنه وجد نفسه في مواجهة الواقع الذي أعاد إنتاج القمع، فصار الظل رمزًا لكل ما تبقّى من الإنسان بعد سحق ذاته.
ومن القصائد التي بشّرت بمستقبل أكثر إشراقًا، يتجاوز اللحظة الخانقة، جاءت قصيدة مجدي شندي «لا سيف يُسلَّط فوق الرقاب سيبقى»، التي اعتمدت البناء الحواري بين الشاعر وسراج، بلغة تجمع بين الرقة والتحريض. يقول :«كم مرة قلت لي ترفَّقْ بحلمك لئلّا يُجْهِضْهُ العَسَسْ.. وها أنت يَحْجُبْكَ عني الظلامُ الذي قد خَشِيتَ عليّ عُوَاءَهْ.. فارفق بنفسك.. حافظ على بنفسجة الحلم بين ضلوعك.. وكفكف دموعك.. فإنا ما نسيناك غمضة عينٍ.. ولا تركناكَ وحدك.. حدِّق تَرانا.. أسارى في زنزانتك التي أرادوها ضيقة كجحر ضب، فصارت وسيعة.. ستزهو بما أنت يومًا وتمشي – كما عهدتك مختالا – تقطع بنصل الحروف رؤوسًا، تكون حينئذ أينعت ونعزف معًا.. قصيدة عشقٍ لوطن ظلَّ أسيرًا.. ينتظر بأن تفك القصائدُ قيده.. لا سيف يُسلط فوق الرقاب سيبقى.. ستبقى القصيدة».
يستدعي النص صورة الشاعر المقهور، كمُلهِمٍ وأيقونة، إنه الفارس والبطل، يتماهى حلمه الفردي مع الجماعي، نص تتحوّل فيه الزنزانة إلى مساحة تزداد فيها رقعة الأمل. وتُبرز القصيدة ثنائية "القصيدة مقابل السيف"، في إشارة إلى إيمان شندي بقوة الكلمة التي «تقطع بنصل الحروف رؤوسًا» بدلًا من أن تريق دمًا. بهذا المعنى، يضع النص الفن والشعر ، في مواجهة مباشرة مع أدوات القمع، ويعلن أن القصيدة وحدها هي التي ستبقى، بينما تفنى أدوات العنف. كما في القصيدة إحالات تاريخية؛ منها: الإحالة على خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي حول الرؤوس التي أينعت وحان قطافها، وكذلك يعيد توظيف الحديث النبوي، في قوله حول جحر الضب: «أسارى في زنزانتك التي أرادوها، ضيقة كجحر ضب، فصارت وسيعة»، يعيد التوظيف بمعنى جديد، فهذا الجحر يتسع بوجود شاعر فيه، يمتلك الخيال والأمل القادر على صنع المستحيل.
---------------------------
د. عبدالكريم الحجراوي
من المشهد الأسبوعية
سنحرر شاعرا بقصيدة