"أبو العُريف" هو وصفٌ جرى العرفُ علي إنزاله علي من يدعي معرفةَ كل شيء، والعلمَ بدقائق الأمور، وهو في حقيقته علي خلاف ذلك، فكانت علي الدوام صفةَ ذمٍ واستهجان.
ولكنْ ليسمح لي القارئ بأن أستخدمها ولو في هذا المقال فقط كصفة مدح ؛ لأنني لا أري لصاحبها وصفا أفضل منه.
مصطفى عبد السميع عيَّاد هو أحد أفراد شلة (الأُنس)، هكذا تُوصف؛ لأنها تضمُ كلَّ نجوم الكوميديا في قريتنا، بدءا بفرقة (أغاني الوابور)، مرورا بالشيخ عبد العظيم أبو صالح، وأستاذ عبده بوجري، والمرحوم أحمد يوسف الملاح، والفقيد صلاح مؤنس، وغيرهم، وكلُّ واحدٍ من هؤلاء (حكايةٌ) في الظرف والمرح، وإن صحّ، فقل كلهم نجومُ شباك، ولا يوجد من بينهم (كومبارس)، لكن يظل مصطفي عبد السميع هو الاسم الأول في أفيش النجوم، ويأتي من بعده الآخرون.
رغم رجاحة عقل مصطفى، وشدة ذكائه، إلا أنّه لم يحصل بعد الثانوية العامة إلا علي معهد فوق متوسط؛ لتقديمه الواجبات الاجتماعية علي مصالحه الشخصية، والتي من أهمها الدراسة والمذاكرة، فضلا عن دخوله - كشأن معظم أسر قريتنا - مع الفقر في عراك شديد؛ مما أجبره علي العمل كـ(ترزي)؛ ليقتات هو وأسرته الفقيرة، التي نَحتَ أفرادُها في الصخر من أجل البقاء بمساعدة أخيهم الأكبر الحاج محمد عبد السميع - طيب الله ثراه - والذي كان لإخوته أبا وليس مجرد أخ.
امتاز مصطفي عيّاد بالعديد من الصفات، التي جعلت منه بطلا حتي بعد الرحيل .
أولى ميزاته - رحمه الله - ثقافتُه الموسوعية، والتي شملت الفنَّ والسياسة، الفكر والدين، الكرة، والمطبخ، فقد كان عالما بفنون الطبخ وأسراره !
إضافة إلي إحاطته بخبايا مهن، من المُفترض أنه لا يعرف فيها الألف من (كوز) الذرة كالفِلاحة، والسباكة، والنجارة، وخلافه، فكان يضرب فيها بسهم، ويُفتي، وكثيرا ما تُصيب فتاواه، وحقا .. (تيجي مع العمي طابات ) !
عُرف مصطفي بروح الفكاهة، وحضور الذهن، ومواقفه في ذلك كثيرة منها، أنه في يوم اشتهت شلةُ الأنس تناول اللحم، فبكّر أحدهم، واشتري 2 كيلو (كندوز وصاية)، ودفع باللفة لمصطفي ليقوم بطهي اللحم، وعمل الفتة، وشاء حظُهم العكر أن تكون الذبيحة التي اشتروا منها كبيرة السن، فغاب اللحمُ علي النار، دون أن يتم نُضجه، وجلسوا حول الإناء المرفوع على النار القرفصاء، يجري ريقهم، وكلما غرس أحدهم أسنان شوكته في قطعة لحم، يتحسس نضحها انثنت أسنانها .
منّى الرفاق أنفسهم بالصبر؛ استنادا إلى أنه من صبر ظفر، وكانوا كلما حرّك البخار غطاء القِدر، تتراقص قلوبهم، ويحدوهم أملُ الالتفاف حول تلك الوجبة الدسمة، التي تتسنم فيها قطعُ اللحم أطباق الفتة.
طال الانتظار، وظلوا حول الموقد عاكفين من زوال الشمس إلي قُرب الغروب، فتملكهم اليأس، وتحجرت الدموع في عيونهم شوقا لتلك الوجبة الدسمة، هنالك أشار (الشيف) مصطفي بتقليل (المرق)، عسى أن يساعد ذلك في سرعة النُضج، فانبري صلاح مؤنس يَتكفَّى على وجهه بعدما ألهبه الجوع، وشرع يَغرِف المرق ليتخلص منه، لكنه لم يجد مكانا يسكب فيه المرق، فنصحه مصطفي بإلقائه في أصيص الزرع، عسي أن يُنبتَ (الأصيص) بقرا أو جاموسا، يُغنيهم عن الحوجة لذلك الجزار اللئيم، الذي خدعهم، وباع لهم من بهيمة مُسنة !
بأصيص الزرع، سكب صلاح مؤنس المرق، واستحضر رفاقه قول القائل:
سكب الجرةَ عــــمدا/ وسقي الأرض شرابا
قُلتُ والخمرة ديني/ ليتنـــي كنـــت ترابا .
عُرف مصطفي عياد كذلك بصوته الندي الذي اعتاد أن يترنم به مع العزف علي العود، وفي يوم خرجت الشِلّة في رحلة إلي مدينة (الإسكندرية)، وانطلق مصطفي (العندليب) يُغني لأم كلثوم وعبدالوهاب، الذي غنَّي له (خي خي .. حبيبي ليه قاسي ليه يا خي) فالتف حوله المصطافون، وأخذوا في التزايد حتي تعطلت حركة المرور؛ مما اضطر رجالَ الشرطة للتدخل لفض الكورال المُلتف حول مصطفي العندليب، وهمّوا بتحرير محضر له لتعطيل المرور، لولا تدخل أهل الخير.
لم تقتصر موهبة مصطفي علي الثقافة والغناء، بل امتاز بإخلاصه لأصدقائه، وتفانيه في مساعدة الغير، حتي وإن عطَّل مهامه، وأخّرَ أشغاله، وكوّم أقمشة الزبائن التي تغيب عنده بالشهور، دون أن يُفكر أصحابُها في استردادها، ودفعِها لترزي آخر؛ طمعا في أن يخيطها هو لا غيره؛ لأن يده رحمه الله كانت (تتلف) في حرير.
في محله الصغير، الذي لم يزد علي شبر في شبر، و تتفرق في جنباته أكوام القماش، كانت تنعقد حلقاتُ السمر، وتحلو ليالي الأنس، ويتباري رواد ذلك المكان الذي كان أشبه بصالون ثقافي في عرض مواهب الشعر والغناء والخطابة، والإلقاء، وتبقي حلبةُ الهجاء خطا أحمر لا يمكن لأحد مهما أُوتي من ذكاء، وحضور ذهن أن يُنازل فيها مصطفي عبد السميع، باستثناء شخصٍ واحد وهو المرحوم أحمد يوسف الملاح، الذي كان جبارا لا يُبارى، وحقا لا يفُل الحديدَ إلا الحديد.
مصطفي عبد السميع، مواهبُ جمة، وظرفٌ غير متناه، وسخاءٌ وكرم ربما استدان من أجلهما، ورضا بالمقسوم لا حدود له .. رحم الله الرجل وبارك في ذريته وأولاده .
---------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام