في فترة متقاربة، جنح الكاتب المصري عمار علي حسن إلى كتابة ثلاثة كتب له، تتمحور حول تجاربه الذاتية في الحياة، بدأها بـ«مكان وسط الزحام - المصرية اللبنانية 2018م» الذي تناول جانبًا من سيرته الذاتية، وفترة كفاحه ليجد لنفسه مكانًا ومكانة في القاهرة المزدحمة بأهلها. والثانية: «عجائز البلدة - المصرية اللبنانية 2020م» الذي يضم مجموعة من المقالات الأدبية، التي يرصد فيها العناصر والآلات التي عايشها في قريته، وهو ما اعتبرناه وقتها استكمالًا لجانب الطفولة في سيرته الذاتية، الذي لم يفرد له مساحة كبيرة في سيرته الأصل. وتكتمل هذه الثلاثية المتمحورة حول الذات، وما قام به من أعمال، أو ما عايشه من مواقف وتجارب بكتابه «ألف نافذة لغرفة واحدة: رحلة بين الطبيعة والطبائع» الكتاب الحاصل على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة فرع الرحلة المعاصرة لعام 2022م. يسرد فيه تجاربه ورحلاته التي قام به في العديد من بلدان العالم «فرنسا، تركيا، إنجلترا، ألمانيا، إندونيسيا، الإمارات، البحرين، الكويت، السودان، المغرب، الأردن، لبنان، السعودية».
اتخذت تلك الثلاثية أجناسًا أدبية مختلفة «سيرة، ومقال أدبي، وأدب الرحلة»، تغطي كل واحدة منها جانبًا وحقبة من حياة مؤلفها؛ فإحداها اختصت بعالم طفولته ونشأته المبكرة، والثانية اهتمت بفترات تكوينه وبحثه عن مكان في عالم المدينة القاسي، وطريقه للتحقق كاسم لامع في سماء الإبداع والبحث السياسي الاجتماعي، والكتاب الثالث صدر 2022 ليرصد تجارب عمار الآنية بعد تحققه، التي مكنته من السفر إلى كثير من بلدان العالم. وكشفت هذه الثلاثية عن اتساع الرؤية للعالم، وتدرجها بشكل منطقي من القرية (الإسماعيلية في محافظة المنيا وسط مصر).. إلى المدينة القاهرة عاصمة مصر.. إلى المنطقة العربية بداية من الخليج والمغرب العربي.. وصولًا إلى باريس ولندن وبرلين... إلخ.
أجناس أدبية متنوعة
واللافت في هذه الأعمال الثلاثة بخلاف تنوع أجناسها، أنها جميعًا جاءت في وقت متقارب لا يتجاوز أربع سنوات، حيث صدرت مكان وسط الزحام في 2018م، وعجائز البلدة 2020، وألف نافذة 2022. مما يطرح تساؤلًا حول السبب الذي جعل عمار ينحو هذا الاتجاه في الحديث عن نفسه بهذه الكثافة، وكأنه يريد أن يخبر الجميع بمراحل حياته كلها.. كيف كان؟ وإلى أين وصل؟ وآلية هذا الوصول. هذا التساؤل ذاته الذي طُرح على المؤلف حين نشر سيرته الذاتية، التي اعتبرها الكثيرون أنها جاءت في وقت مبكر، فمن المعتاد أن السير الذاتية يكتبها من يبلغون من الكبر عتيًّا، وهو ما رد عليه عمار وقتها بأن طه حسين كتب الأيام في الثلاثينيات من عمره، وأن الدافع الذي جعله يعجل في كتابة السيرة هو الهجوم الشديد الذي يتعرض له من قبل خصومه السياسيين، الذين يهدفون إلى تشويه صورته أمام الناس، فكانت سيرته رسالة للناس أنه واحد منهم وخرج من بينهم، عكس ما يدعي المدعون. ويمكن اعتبار أن الكتابين اللاحقين على السيرة وهما: عجائز البلدة، وألف نافذة، جاءا كتأكيد على هذا المعنى الذي طمحت له سيرته. بالإضافة إلى تعلق عمار علي حسن الكبير بسيرة طه حسين، خاصة وأنهما نشآ في المكان ذاته، محافظة المنيا، وأكملا تعليمها في جامعة القاهرة، وعلى غراره كتب سيرته، فعندما فُصِل طه حسين من الجامعة وهوجم هجومًا شديدًا، أخرج سيرته الأيام أيضًا؛ ليكشف للعامة والخاصة من يكون، وأنه ليس زرعًا شيطانيًّا نشأ في الفراغ.
تعلق بالعميد
أما عن النمط الذي اتبعه عمار علي حسن في التعبير عن ذاته، في أكثر من جنس أدبي، فهو أيضًا ليس ببعيد عما فعله عميد الأدب العربي، فسيرته «الأيام» لا تحيط إلا بجانب ضئيل من حياته، يتعلق بالنشأة، وسنوات المثابرة والبناء في طريق الصعود إلى ما يريد. بينما نعثر على بقية سيرته موزعة في كثير من كتاباته الأخرى مثل: روايته «أديب» التي يستشهد بها عمار نفسه أثناء حديثه عن رحلته إلى باريس، كما أن طه حسين كتب عن الزيارات والرحلات التي قام بها إلى البلدان المختلفة في الشرق والغرب، في مقالات له، نشرت في الصحف والمجلات المختلفة. وهو الأمر ذاته الذي يقوم به عمار في كتابه "ألف نافذة" الذي يسرد فيه زياراته للبلدان المختلفة، حيث المنتديات، والملتقيات العلمية، والسياسية التي دعي إليها؛ لكي يدلي بدلوه فيها، والاستفادة من قراءته الاجتماعية، والسياسية للأحداث بوصفه متخصصًا في علم الاجتماع السياسي، وكذلك أديب له العشرات من الأعمال الإبداعية المتنوعة بين الرواية، والقصة القصيرة، والمسرح، والشعر.
أدب الرحلات
والأمر الثاني الذي يجدر الحديث عنه هنا هو الجنس الأدبي الذي اختاره عمار علي حسن، ليسرد فيه جانبًا من حياته المعاصرة، وطبيعة عمله، ورحلاته، ونظرته للناس، ألا وهو أدب الرحلات، الذي يعد من أقدم الأنواع الأدبية، وتتسع دائرته لتشمل فنونًا كثيرة. وقد اهتمت به حتى السير الشعبية، وهو جزء لا يتجزأ منها، فلا يمكن لبطل من أبطال السيرة أن يحصل على مكانته الكبرى بين قومه، دون أن تكون له رحلات مختلفة تكسبه الخبرة اللازمة لمعرفة طبائع البشر، وكيف يتعامل مع مواطن الخطر، ليكون صالحًا لقيادة قومه، وعبور الأزمات بهم. فعنترة بن شداد يرتحل من أجل النوق الحمر لابنة عمه، وحمزة البهلوان من أجل مهر مهردكار، وفيروز شاه من أجل عين الحياة، وسيف بن ذي يزن لحبيبته شامة، والسيرة الهلالية قائمة في جلها على تغريبة بني هلال ورحيلهم من نجد إلى المغرب العربي. وفي ألف ليلة وليلة هناك رحلات سندباد البحري وأيضًا سندباد البري، كلها حكايات تكشف عن تطلع الإنسان القديم ما قبل انتشار التكنولوجيا الحديثة إلى معرفة العالم، وما فيه من غرائب. وإشباعًا لهذه الغريزة؛ بنيت الحكايات الشعبية، التي لم تهتم فقط بعالم البشر؛ بل ذهبت إلى بلاد الجن وعالم ما وراء الطبيعة.
عمار علي حسن - ألف نافذة لغرفة واحدة - عبدالكريم الحجراوي
عصر الرقمنة
هذا الولع بمعرفة الآخر، وجوانب الكرة الأرضية، وأحوال أناسها، غطته الحكايات الشعبية. وكذلك انتبه إليه الأدب الرسمي في العصور المختلفة، فنرى الرحلات التي قام السيرافي، وسلام الترجمان، والإدريسي، وعبداللطيف البغدادي، وابن بطوطة، ورفاعة رافع الطهطاوي في تلخيص الإبريز، وتوفيق الحكيم في زهرة العمر، التي يتناول فيها جانبًا من حياته في باريس في صورة رسائل. إلا أن هذا الجنس الأدبي تأثر كثيرًا مع ظهور وسائل التواصل الحديثة، وسهولة التنقل بين القارات المختلفة. وهو ما يشير إليه عمار على حسن نفسه، منذ البداية، لأنها تحدٍّ لا يمكن إغفاله، وتساؤل لا يمكن تجاهله حول أهمية هذا الجنس الأدبي في عصر الرقمنة الحالي، الذي تشاهد فيه العالم بأسره دون أن تغادر مقعدك، فيقول بأنه «رغم تدفق الصور في عالم يعيش في ثورة اتصالات، حولته إلى غرفة صغيرة، فإن الجالس في مكانه ومهما تسارعت الصور أمام عينه، وانهمرت فوق رأسه، لا يمكنه أن يصل إلى المعاني التي يتحصل عليها مسافر ذو بصيرة». ويشير إلى أن النهج الذي انتهجه في الكتابة عن أسفاره لا يصف كل ما شاهده؛ لأنه مهما بلغ وصفه من الدقة والاقتدار، فلن يكون على قدر ما ماثل في الطبيعة، لأن أي لفظ أو قول أو كلام مهما كانت بلاغته يقيد المعنى، وليس بوسعه أن يهزم الصور والأقلام المتاحة بلا انقطاع على المنصات الرقمية، بينما يظل الشيء الأهم بالنسبة له رصد كيف يتعايش الناس رغم اختلاف القيم، والأفهام، ودرجات الوعي، والمصالح، والغايات الفردية، وكيف يتجاور القديم مع الجديد في المدن، ليثبتا أن الماضي لم يذهب، واندمج مع حياتنا المعاصرة. ويحاول عمار علي حسن، من خلال هذه المنهجية في الرصد، تجاوز ما يمكن أن يصل إليه الإنسان الآن، هو جالس في بيته عبر الصور التي لم تكن متاحة من قبل بهذه الكثافة والغزارة، معتمدًا على رصد ما هو إنساني، وتجارب معاشة لا يمكن أن يمنحها إلا صاحب التجربة.
التداعي
وينطلق عمار في سرده لرحلاته عما يعرفه عن هذه البلدان الذاهب إليها، وما ترسخ في وعيه عنها من الكتب، أو ما شاهده في الأفلام، فيقول عن رحلته إلى إنجلترا على سبيل المثال: « إنجلترا بالنسبة لي لم تكن فقط ما قرأته في كتب التاريخ، لكنها أيضًا ما طالعته في كتب الأدب، فمن بوسعه أن ينسى مسرحيات شكسبير وجورج برناردشو، وروايات سومرست موم، وأشعار جون كيتس وتوماس إليوت، وهي أيضًا فلسفة توماس هوبز والتصورات الاقتصادية العميقة لآدم سميث، وهي العبقرية السياسية لتشرشل...».
ويعتمد عمار في سرده أيضًا على التداعي، فذكر دولة ما يحيله إلى كل ما يتبادر إلى ذهنه عن هذه الدولة، من حكايات، وشخصيات بارزة، ويربط بين الأحداث المتشابهة، فهو يعتمد على الذاكرة، وخبراته السابقة، وهو ما يوضحه قوله: «كل بلاد الناس سواء لمن يبحث عن الجمال في النفوس والمناظر، لكنها لا تكون كذلك لمن ينبش في ذاكرته، فبعضها راسخ كأنه جبل، وبعضها عابر كأنه سحاب». ويجسده أيضًا بداية حديثه عن باريس، بأن ينبش في ذاكرته مستعيدًا كل ما يعرفه عن هذه المدينة «راحت باريس تعرض زينتها ووجعها في نفسي أيام طفولتي كحال لوحة خالدة، رسمها فنان مقتدر على مهل؛ كي يجعلها فوق النسيان...». لتتوالى بعدها الحكايات التي عرفها عن باريس، من خلال ما كتبه طه حسين في روايته "أديب" التي يتناول فيها حكاية إبراهيم عبدالله، ويطلق عليها الاسم الذي أطلقه عليها أحد أبطال الرواية بأنها «مدينة الجن والملائكة»، مشيرًا إلى أن هذا الوصف يليق بسحر باريس كما رآها. يحاول أن يستعيد ذكريات وأفعال المصريين الذين سبقوه إلى هناك. يحكي عن توفيق الحكيم ويسعى إلى زيارة الأماكن التي زارها. ويبدأ بعدها عمار بربط معارفه النظرية من خلال الكتب والأفلام، بمعرفته العملية على أرض الواقع من خلال زيارته الآنية لهذه الدول، ويحكي عن الوقائع والمشاهد التي عاصرها بنفسه في تلك المدن، والنقاشات التي دارت، والرجال الذين قابلهم، ويكشف عن التشابهات بين البشر في الغرب والشرق.
والأمر ذاته يكرره في حديثه عن رحلته إلى تركيا، فيسترجع ما قرأه عنهم في كتبه المدرسية، في نهاية المرحلة الابتدائية، التي تتناول فتح العثمانيين لمصر عام 1517م بعد عام واحد من هزيمتهم السلطان الغوري في موقعة مرج دابق وقتله تحت سنابك الخيل. ويستعيد من ذاكرته أن العثمانيين على مدار أربعة قرون فرغوا مصر من كل صناعها المهرة، وأرسلوهم إلى اسطنبول. ويذكر غناء خالته في الحقل الذي يؤرخ لهذه الوقائع «متحسبنيش يا أمي.. حارسة الكمون.. حارسة كمون.. أنا في عب الجندي.. رايحة إسطنبول.. رايحة إسطنبول». إرث قدم حفظه الأبناء من أجدادهم، وقد غاب عنهم معناه مع تطاول الزمن. عندما يزور مدينة الضباب يتذكر فيلم القلب الشجاع brave heart وكوبري جسر لندن الذي علق عليه رأس البطل، يستعيد ما درسه في المرحلة الابتدائية عن حملة فريزر وفشلها، وجلاء آخر جنودها عن مصر عام 1954م، بعد احتلالها عام 1881م. وما صنعته خلال هذه المدة من جماعات دينية متطرفة، ما زالت علاقتها بهم وطيدة حتى الآن، ويعيشون في كنفها. عن ألمانيا يبدأ حديثه عنها باستدعاء ما حكته له عمته، في قريته في وسط مصر، بأنهم انتظرو هتلر بالشوم (أي بالعصي) من أجل محاربته. فيما قالت عمة أخرى له: «كان الناس يقولون لو جه هرطل هنهرطله».
ويعد هذا التداعي للأفكار سمة أساسية، في ثلاثية عمار علي حسن المتمحورة حول الذات، وهي التقنية الأدبية التي اتكأ عليها في السرد، راصدًا التشابه بين الإنسان، رغم اختلاف الأماكن، والشكل المعماري للمدن، محاولًا سبر أغوار البشر على اختلاف أجناسهم وأعراقهم، مركزًا على الجانب الاجتماعي، وعلاقات هذه الدول بمصر وأهلها، ومدى ارتباطها بهم. مؤكدًا على فكرة أننا لا نعرف تاريخ الأمم فقط بكبار الساسة من الملوك والرؤساء؛ بل البارزين من علمائها، وأدبائها، ومفكريها، وفنانيها، الذين أثروا الحياة والفكر العالمي بإبداعهم الإنساني، الذي هو إرث لكل البشر، وليس حكرًا على دولة بعينها.
وتتفاوت مساحة الحكي لكل دولة زارها، حيث يفرد مساحة كبيرة لباريس؛ لما لها من تأثير كبير على الثقافة المصرية، والتي ابتعثت إليها البعثات، وهناك الكثير من الروابط المصرية الفرنسية، بينما تقل مساحة الحكي للدول الأخرى، حسب حضورها في ذاته، متجنبًا التكرار ووصف ما هو معلوم بالضرورة للناس حول هذه المدن التي زارها. وفي الفصل الأخير المعنون "إخوة اللسان والتراب" يجمع كل حكاياته عن الدول العربية التي ذهب إليها، في فصل واحد مترابط، دون أن يجعل بينها فاصلًا كما فعل مع الدول الأخرى، في إشارة إلى وحدة الدول العربية من المحيط إلى الخليج.
-----------------------
د. عبدالكريم الحجراوي
من المشهد الأسبوعية