31 - 05 - 2025

هرانت ناصيبيان.. الأرمني الذي كتب فصلاً خفيًا في تاريخ السينما المصرية

هرانت ناصيبيان.. الأرمني الذي كتب فصلاً خفيًا في تاريخ السينما المصرية

في العدد 29 من مجلة الفيلم، يعود الكاتب والباحث سامح سامي، مدير جمعية النهضة العلمية والثقافية “جزويت القاهرة”، إلى ذاكرة السينما، باحثًا عن المدينة، وعن سينما الألفية الجديدة، لكنه أيضًا يفتّش في تاريخ ستوديو ناصيبيان الذي يسميه دومًا بـ«العظيم»، شاهداً على بهجةٍ وإبداعٍ لم يُطفأ بمرور الزمن.

عام 1937: بدايات “العظمة المنسية”

في هذا العام، قرر هرانت ناصيبيان، المصوّر الأرمني، أن يؤسس استوديوًا سينمائيًا بمنطقة الفجالة بالقرب من رمسيس، على مساحة تُقدّر بـ1300 متر مربع. هدفه كان واضحًا: إنشاء مكان لتصوير داخلي للأفلام، ومعمل تحميض وطبع، ومبنى إداري. وجاءت هذه المبادرة بعد عامين فقط من تأسيس طلعت حرب لأول ستوديو في مصر، وهو ستوديو مصر.

يقول سامي إنه منذ دخوله لأول مرة مسرح استوديو ناصيبيان، بدأ رحلة البحث عن صاحبه، لكن معظم كتب تاريخ السينما المصرية لم تمنحه سوى أسطر قليلة، مشتتة هنا وهناك.

البحث عن “ناصيبيان” في الظلال

حين التحق سامي بدبلوم النقد السينمائي بجامعة عين شمس، زاد فضوله عن ناصيبيان، لكن دون إجابة شافية. فتوجه إلى دار الكتب المصرية، بمساعدة الزميلتين ريم محمد سيد ونادين يوسف، ليكتشف أن الدار كنز مدفون تحت تراب البيروقراطية، تمنع الرياح الآتية من أي تغيير أو كشف لحقيقة تاريخنا.

وعندما دعا عبر “السوشيال ميديا” من يستطيع مساعدته، جاءت الاستجابة من الدكتور أرمين مظلوميان، رئيس الهيئة الوطنية الأرمينية وسكرتير المجلس الملي للبطريركية الأرمينية في مصر، الذي قدّم له كنزًا من المعلومات والصور.

كشف مظلوميان أن ناصيبيان كان من أعيان الأرمن في مصر، ورئيسًا للمجلس الملي للأرمن في الخمسينيات. كما أسس عدة استوديوهات فوتوغرافيا مثل: “سيني فوتو” و”فرانيا” بوسط البلد، إلا أن هذه الاستوديوهات أُغلقت، ولم يتبقَ منها إلا بعض الكروت والأفلام الخام التي حصل عليها سامي من طالب بمدرسة السينما.

وأضاف مظلوميان أن جده لأمه ليون أوهانيسيان، كان شريكًا لناصيبيان، وقال: “جدي كمان مع ناصيبيان أصبحوا أغنياء لكن عبد الناصر أممهم… وجدي كان بيبيع سجاير مع الملياردير أوناسيس على رصيف الميناء بعد ما جه من المذابح”.

ناصيبيان… اسم ارتبط بثلاثة منتجات

  1. ستوديو ناصيبيان السينمائي ومعمل التحميض والطبع (الموقع الحالي لجمعية النهضة – جزويت القاهرة).
  2. استوديوهات التصوير الفوتوغرافي (سيني فوتو وفرانيا).
  3. ورق ناصيبيان: ورق مقوى بدرجات سماكة متعددة، ظهر في مشاهد من أفلام مثل “أعز الحبايب” للفنان زكي رستم.

عام 1996: لحظة الإنقاذ

في تلك السنة، اشترت الرهبنة اليسوعية استوديو ناصيبيان، وأنقذته من مصير النسيان، ليصبح من مكان مهجور إلى نقطة ضوء نابضة بالحياة. ووفقًا لعقد موثق حصل سامي على نسخة منه، فإن الرهبنة اشترت العقارين رقم 11 شارع لينان باشا و13 شارع المهراني، المكلفين باسم الخواجة هرانت ناصيبيان، من السيدة عبلة عبد المجيد لبيب. وقد وقّع على العقد الأب هنري بولاد اليسوعي.

لكن لا يزال من الصعب الحصول على معلومات دقيقة حول ما حدث للمعدات القديمة، رغم محاولة سامي المستمرة، علمًا أن الرهبنة تبرعت ببعض هذه المعدات لوزارة الثقافة.

من 1998 إلى 2021: منبع حياة ومأساة

أسست الرهبنة عام 1998 جمعية النهضة العلمية والثقافية “جزويت القاهرة”، وخصصت مبنى ناصيبيان ليكون مقرًا لها. ثم في 2005، تأسس “مسرح ستوديو ناصيبيان”، الذي أصبح أحد أعمدة الحياة الثقافية المصرية، إلى أن دُمّر بالكامل بسبب حريق هائل في عام 2021، قضى على المسرح، دون أن يمس المبنى الأصلي.

ورغم أن نشاط ستوديو ناصيبيان السينمائي توقف في أوائل الثمانينيات، وتحول لمجرد مكبّ نفايات، فإن جمعية النهضة تحاول الحفاظ على ذاكرته، وعلى ما تبقى من “العظمة المنسية”.

عام 2037: مئوية الحلم

يتخيّل سامي القاهرة بعد مئة عام على تأسيس استوديو ناصيبيان، في مايو 2070، بشارع مهراني مكتظ بالجمهور، يحتفي بعرض مسرحي جديد على مسرح ناصيبيان، الذي أصبح يسع 600 مقعد. ويتصوّر مبنى ضخمًا يحمل اسم جمعية النهضة، ومدارسها الفنية، ومكاتب لمجلات متخصصة في السينما والمسرح والموسيقى، في شارع تحوّل إلى متحف مفتوح، اسمه الجديد “شارع مسرح ستوديو ناصيبيان”.

لماذا الاهتمام بستوديو ناصيبيان القديم؟
يُعد ستوديو ناصيبيان علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية، حيث شهد إنتاج العديد من الأفلام التي لا تزال تحظى بشعبية حتى اليوم. وربما توضح مشاهد هدم المقابر المتكررة حسرة المصريين على ضياع جزء من تاريخهم الذي بالضرورة يقتطع جزءًا كبيرًا من مستقبلهم.
تلك المشاهد تجعلك تدرك لماذا نهتم بقطعة صغيرة من تاريخ السينما المصرية؛ لذا فإنني وبعض زملائي في النهضة — جزويت القاهرة — نقدس «الحيطة القديمة» لاستوديو ناصيبيان رغم أنها لسه مكملتش 100 سنة لكن بنقدر جدًا عظمة هذا الاستوديو والأفلام اللي ظهرت فيه، مع إدراك أن ستوديو السينما انتهى أمره في أوائل الثمانينيات، وأن عظمة المكان تدور فقط حول المسرح الذي اتخذ من ستوديو ناصيبيان فقط الاسم و«الحيطة القديمة» وجزءًا من أرض الاستوديو القديم، وتدور حول أنشطة النهضة سواء في مدارسها الفنية أو أنشطتها الثقافية ودورها الفاعل والمؤثر في الحياة الثقافية المصرية.