أرسل لي أحد الأصدقاء صورة صفحة من كتاب لصحفي، يشير فيها إلى واقعة مواجهتي مع سفير إحدى الدول العربية الشقيقة. وذلك الصحفي يعرفني جيدًا، ولم يكلف خاطره ليسألني عن تلك الواقعة، وفقًا لأصول التحقق من أي حدث قبل الكتابة عنه، واستسهل الإفتاء وإلقاء الأحكام، ولا مانع من الاستشهاد بالأستاذ هيكل بعد وفاته؛ لأنه ببساطة لم يعد معنا ليرد. والنتيجة التي قال إن أستاذ هيكل أبلغه بها، هي أن تلك الأزمة كانت بين رجلين وليست بين دولتين، ولن تؤثر على العلاقات بينهما. وصحيح أنها لم تكن أزمة بين دولتين، لكنها لم تكن أزمة بين رجلين، بل بين رجل وسياسة دولة كانت تدعم قوى التخلف والعنف الديني والإرهاب، وهي تبتعد عن ذلك التوجه في الوقت الراهن.
والحكاية ببساطة، أن وزير خارجية تلك الدولة الشقيقة، صرح عام 2012، بأن بلاده تتدخل في سورية لدعم الحرية والديموقراطية (كانت تدعم جبهة النصرة، وداعش، وتيارات العنف الديني عمومًا). وكنت أقدم برنامجًا تلفزيونيًّا آنذاك، فقلت فيه، إن نسائم الحرية لم تجد لها سبيلًا لبلد ذلك الوزير، فكيف يدعمون الديموقراطية والحرية في دولة أخرى؟! الأولى بهم أن يحترموها في بلادهم. وفي اليوم التالي حادثتني المستشارة الإعلامية في سفارة تلك الدولة، وأبلغتني أنهم يريدون مني أن أكون مستشارًا اقتصاديًّا لهم. وليس مطلوبًا مني أن أكون مؤيدًا، بل يكفي أن أنساهم تمامًا ولا أعلق على أي شيء يخصهم. واعتبرت أن الموضوع محاولة رشوة مبتذلة، من جهة تجهل تاريخي في مكافحة الفساد، واحترامي لقيمتي العلمية، ولمبادئي، وتعففي فيما يتعلق بالمال. ولم أشر للواقعة بأي شكل؛ لأنني لست من هواة التجارة بالمواقف، وأكملت في الحلقة التالية من برنامجي التلفزيوني، نقدي لتلك الدولة، ولدورها في دعم التطرف والإرهاب في سورية والمنطقة.
وبعد تعييني رئيسًا لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام بفترة، اتصلت بي سفارة تلك الدولة الشقيقة، وطلب السفير أن يدعوني وقيادات المؤسسة لمأدبة غداء، واعتذر السفير بلياقة ورحابة صدر وخفة ظل، عن مشكلة تتعلق بتأشيرات لبعض العاملين بالأهرام، لم يتم التعامل معها بصورة لائقة، وكان ذلك الاعتذار شرطًا مني لأي مصالحة؛ لأن كرامة أصغر عامل في المؤسسة من كرامتي، ومن كرامة الدولة الكبيرة التي أنتمي إليها. وقبل موعد المأدبة، حدث العدوان على اليمن، وأنا لا أقر الانقلاب على الدولة في اليمن، لكنني لا أقبل بأي شكل من الأشكال، أن تقوم دول عربية بالعدوان على دولة عربية شقيقة بأي ذريعة. المهم أنني لم أرغب أن تكون المأدبة جزءًا من حملة العلاقات العامة السياسية للتغطية على ذلك العدوان، فأبلغتهم اعتذاري النهائي عن اللقاء والمأدبة لحين انتهاء الحرب. وكل تلك الأحداث هي مواقف لي من سياسة دولة شقيقة، وليس من سفيرها بشكل شخصي. وبالمناسبة لم يحدث أي لقاء شخصي لي مع السفير، طوال تلك الفترة، أي أنني لم أتعرف عليه شخصيًّا، حتى يدعي الصحفي في كتابه أنها كانت أزمة بين رجلين.
أما واقعة الأزمة التي حدثت معه في منزل سفير إحدى الدول العربية بالقاهرة، حيث كنا مدعوين معًا لعشاء على شرف وزير الخارجية الأسبق لتلك الدولة، فتتلخص في حضوره محتقنًا من مواقفي السابقة بشأن دور دولته، في دعم الإرهاب في سورية، والعدوان على اليمن، واستعصائي على الرشوة، وكان بالفعل مضمرًا للاستفزاز وخلق الأزمة، فأدخل نفسه في نقاش لم يكن طرفًا فيه، وبدأ بالسباب، فأسمعته ما يكره ردًّا وليس مبادرة، وألقى علي بالماء، فأغرقته بالماء ردًّا وليس مبادرة أيضًا.. وهكذا سارت الأمور.. العين بالعين والبادئ أظلم، وهو ما لم يتعود عليه من قبل، حيث تعود على خنوع طالبي المنافع منه أو من دولته. ثم غادرت رغم إلحاح الجميع علي بالبقاء. وطلب السفير المستضيف وهو رجل دولة محترم، ألا أتحدث في الموضوع؛ لأنه حدث في منزله، ولا يريد أن يدخل اسم بلاده في أزمة مرت وانتهت. فطمأنته تمامًا؛ لأنني أخذت حقي، وحق مؤسستي، وحق بلادي تمامًا، ولا حاجة لي للحديث عن الموضوع. ولم أبلغ أحدًا حتى أسرتي.
وصباح اليوم التالي، طلبني أستاذ هيكل، وسألني عن أحوالي، ولما لم يجد مني تصريحًا عن الموضوع، سألني مباشرة عما حدث، حيث كان الطرف الآخر قد اشتكى رسميًّا وأشاع الموضوع، وطلب مني بلياقته الراقية أن أذهب إليه، فذهبت وعرضت له الموضوع بكل تفاصيله، فطلب مني أن أكتب ما حدث وأرسله للرئاسة، وهو ما قمت به فعليًّا. والأستاذ هيكل من الذكاء بحيث يدرك أن المشكلة ناجمة عن سلسلة مواقف لا تخص شخص السفير، بل سياسة دولته آنذاك، وتأثيرها السلبي على مصر، وسورية، والمنطقة العربية عمومًا، لذا لا أظن أنه يمكن أن يعتبرها مشكلة بين رجلين، وحتى لو حدث فإنه مخطئ تمامًا. وصحيح أن الدولة الشقيقة طلبت إقالتي واعتذار الدولة، لكن الواقعة لم تحدث بيننا في غرفة مغلقة، بل أمام آخرين قدموا شهاداتهم للدولتين، وكلها أدانت السفير بأنه من بدأ كل الأخطاء، وأنني فقط قمت بالرد عليها بغلظة. وكان موقف الدولة المصرية، محترمًا وداعمًا للحق في تلك الأزمة، وهي من الأمور التي أحملها لها رغم أي خلاف بشأن السياسات الاقتصادية والحريات. كما أقدر للدولة الشقيقة أنها أرسلت مسؤولًا راقيًا ورفيع المستوى علميًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا، كان في زيارة عمل للقاهرة، وتحادثنا، وأقر بناءً على استطلاع شهادات من حضروا اللقاء، أن الخطأ بدأ من جانب سفير بلاده. وهذا الأمر كله أصبح من الماضي، وحتى سياسات تلك الدولة التي كانت محل خلاف تغيرت بشكل جوهري وجيد، فأوقفت دعم مجموعات التطرف الديني والإرهاب، وأوقفت الحرب على اليمن. فلماذا يلوك القصة من لا علاقة له بها من قريب أو بعيد، ويصل لاستنتاج يسطح الأمور ويبتذلها؟!
من أكثر الأشياء الصادمة لدى كتاب الحكايات، أن يجتروا بطريقتهم واقعة لا علاقة لهم بها من قريب أو بعيد، لمجرد أنها أخذت حيزًا من الاهتمام العام، والأسوأ أن ينسجوا قصة لمجرد التقليل من شأن أو تسطيح ما فعله غيرهم، مما لا قبل للكثيرين بفعله!
---------------------------
بقلم: د. أحمد السيد النجار
(نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك)