- الفنان المصري لم يكن مجرد ممثل على خشبة المسرح، بل كان صوتًا يتحدى قسوة القمع.
- فن المقاومة في مصر ليس مجرد شعار، بل فعل متجذر في نسيج الثقافة الشعبية.
- لم يكن الإبداع مجرد وسيلة للترفيه، بل شكّل عبر العقود أداة فاعلة للتعبير عن الهموم الوطنية ومقاومة الاستبداد.
- سافرت نادية لطفي إلى بيروت عام 1982 أثناء الحصار الإسرائيلي، متحدية الخطر؛ لتوثّق بكاميرتها بطولات المقاومة الفلسطينية.
- ليلى مراد كانت من أوائل الداعين لمقاطعة المنتجات البريطانية، وقدّمت أغنية "دور يا موتور" دعمًا للفدائيين.
لم يكن الإبداع، سواءً أكان فنيًّا مرئيًّا، أو أدبيًّا مقروءًا، مجرد وسيلة للترفيه، بل شكّل عبر العقود أداة فاعلة للتعبير عن الهموم الوطنية ومقاومة الاستبداد. فقد لعب دور "الصوت البديل" حين أُخرست المعارضة، وكان ثمن ذلك باهظًا؛ إذ دفع المبدعون ثمن مواقفهم من حريتهم وأمانهم، فتعرّضوا للاعتقال والملاحقة والتهميش، وأحيانًا للسجن والعزل والتشويه الممنهج.
وفيما يلي رصدٌ لمجموعة من أبرز المواقف الوطنية التي اتخذها فنانون ومبدعون مصريون، جسّدوا من خلالها معنى الالتزام بقضايا الوطن والحرية:
تحية كاريوكا: أيقونة التمرد
لم تكن تحية كاريوكا مجرد راقصة استعراضية، بل إحدى أبرز الرموز الوطنية في القرن العشرين. ساندت الفدائيين في السويس، وساهمت في تهريب السلاح، ودعمت الضباط الأحرار، وأسست جمعية لمقاطعة الفنانين ذوي الميول الصهيونية.
في عام 1953 سُجنت بعد زواجها من الضابط المنشق مصطفى كمال صدقي، ووجهت إليها تهمة الانضمام إلى تنظيم "حدتو" اليساري، إثر العثور على منشورات سياسية في شقتها. ورغم تبرئتها لاحقًا، قضت نحو مئة يوم خلف القضبان، لتخرج أكثر صلابة، وتواصل دعمها للجيش في حرب 1956.
في مهرجان «كان» السينمائي، واجهت الوفد الإسرائيلي بشجاعة نادرة، وهاجمت الممثلة «ريتا هيوارث» علنًا، وبصقت على ممثل أجنبي أساء للمصريين؛ ما كلفها خسارة جائزة النقاد عن دورها في فيلم «شباب امرأة». فقرّر عبد الناصر تكريمها رسميًّا.
بعد نكسة 1967، كانت أول المتبرعين للجيش، فقال لها ناصر: «إنتِ ست بألف راجل يا تحية». وشاركت في رعاية جرحى حرب أكتوبر 1973، ودعت الفنانين للمساهمة في الجهد الوطني.
وفي 1988، ورغم تدهور صحتها، قادت إضراب نقابات المهن الفنية ضد قانون مجحف، وأضربت عن الطعام عشرة أيام داخل نقابة الصحفيين، ما دفع الرئيس مبارك للتدخل وسحب القانون.
نادية لطفي: كاميرا في قلب الحصار
كرست نادية لطفي حياتها للفن والوطن. تطوعت كممرضة في مستشفيات العدوان الثلاثي، وساهمت في رعاية جرحى الجيش في 1973، فنقلت مقر إقامتها للقصر العيني، وعملت كممرضة محترفة.
سافرت لطفي إلى بيروت عام 1982 أثناء الحصار الإسرائيلي، متحدية الخطر؛ لتوثّق بكاميرتها بطولات المقاومة الفلسطينية. كانت الفنانة الوحيدة هناك، وشاركت الفدائيين والرئيس ياسر عرفات لحظات الحصار، فكرّمها وأهداها شاله. وقالت: «مستعدة أدخل في حيطان ونار، مش بس حصار».
ذكر الشاعر عز الدين المناصرة أن لطفي بقيت في بيروت حتى خروجها مع المحاصَرين على متن سفينة «شمس المتوسط» إلى طرطوس، ثم منحها الرئيس محمود عباس «نجمة القدس». وصوّرت فيلم «جيوش الشمس» مع شادي عبد السلام، مسجّلة أربعين ساعة من شهادات الأسرى في 65 و67 عن جرائم إسرائيل. لم تكن كاميرتها أداة تسجيل، بل سلاحًا في وجه الاحتلال. وكانت تعمل على كتاب وثائقي يوثق الحروب العربية من 1956 إلى 2003، مؤكدة مكانتها كفنانة ذات بُعد سياسي وإنساني فريد.
ليلى مراد: ضحية للتهميش
دعمت ليلى مراد الجيش المصري في حرب 1948، ورفضت السفر إلى إسرائيل. وأثناء وجودها في فرنسا، لاحقتها شائعة تبرعها لإسرائيل بـ50 ألف جنيه، بسبب ديانتها اليهودية، فمُنعت من دخول مصر مؤقتًا. لكنها عادت بعد ثورة 23 يوليو 1952، ونفت الاتهام في مؤتمر صحفي قائلة: «كيف أتبرع لدولة لا أعرفها، ولا أتكلم لغتها، ولا أدين بدينها!»، وأكدت أن الادعاء بزيارتها لإسرائيل يعني اتهامها بالخيانة، وأعلنت استعدادها التام للتحقيق أمام حكومة اللواء محمد نجيب.
وبالفعل خضعت للتحقيق، وأثبتت براءتها، وتزوجت من محمد وجيه أباظة، مسؤول شؤون الفن والثقافة، وشاركت في حملات دعم المجهود الحربي، منها "قطار الفن" لجمع التبرعات، وتبرعت بمبلغ مالي.
لكن زواجها لم يدم طويلًا؛ بسبب اعتراض عبد الناصر على هذه الزيجة. وتعرضت أفلامها للمقاطعة في بعض الدول العربية حتى 1958؛ مما أثّر نفسيًّا عليها ودفعها للاعتزال.
مواقفها الوطنية لم تبدأ أو تنتهِ عند شائعة التبرع لإسرائيل، فكانت من أوائل الداعين لمقاطعة المنتجات البريطانية، وقدّمت أغنية "دور يا موتور" دعمًا للفدائيين بعد إلغاء معاهدة 1936. وفي 1953 غنّت "على الإله القوي الاعتماد"، للتشجيع على الثقة في الله كقوة عليا، تسند الشعب في مسيرته نحو التحرر والاستقلال.
أم كلثوم: صراع خفي مع السلطة
شهدت العلاقة بين أم كلثوم وجيهان السادات توترًا غير معلن، إذ رأت جيهان في كوكب الشرق منافسة رمزية على لقب «سيدة مصر الأولى»؛ لما كانت تحظى به من مكانة شعبية طاغية، وكاريزما تتجاوز أحيانًا الحضور الرسمي. ويُعتقد أن جيهان ساهمت في تقليص ظهور أم كلثوم في المناسبات الرسمية بعهد السادات، مقارنة بما نالته من تقدير في عهد عبد الناصر. هذا التنافس الخفي عكس صراعًا بين شرعية جماهيرية تمثّلها أم كلثوم، وشرعية رسمية مجسّدة في جيهان السادات.
أول توتر بينها وبين جيهان كان حين ذهبت إلى منزله بالجيزة لتهنئه بتولي الرئاسة، وقالت له: "مبروك يا أبو الأنوار"، فردت عليها جيهان السادات بغضب: اسمه الرئيس محمد أنور السادات.
موقف آخر، حكاه هيكل في لقاء مع تلفزيون لبنان عام 1994، حيث قال هيكل إن أم كلثوم وهو وزوجته، والرئيس السادات وحرمه وعدد محدود جداً كانوا في ضيافة سيد مرعي، نائب رئيس الوزراء ورئيس مجلس الشعب، وحينها حدث موقف أغضب جيهان السادات.
وحين دخل السادات إلى بيت مرعي كان يرتدي بليزر أسود وقميص أبيض، فنظرت إليه أم كلثوم وقالت ممازحة: "إيه ده ياريس، أنت عامل أبيض وأسود زي الشجر في الضلمة".
ضحك السادات، لكن زوجته جيهان غضبت وخرجت من المكان.
جيهان السادات من جانبها نقت توتر علاقتها بأم كلثوم، وأكدت أنها ظلت تزورها في فترة مرضها، مشددةً أن أم كلثوم "كانت ست ذكية جداً وعمرها ما تغلط". لكنها لم تنف لقاءاتها مع أم كلثوم في بيت سيد مرعي.
لكن شهادة الفنان سمير صبري، تؤكد توتر العلاقة بين أم كلثوم ورموز حكم السادات، وصلت إلى حد منع إذاعة أغانيها في برنامجه، "النادي الدولي"، بناءً على تعليمات عُليا، حسبما قيل له من إدارة التلفزيون المصري في حينه.
وحكى سمير أنه أحرج جيهان السادات خلال حفل كان يقدمه، حضرته أم كلثوم كضيفة متفرجة، حيث همس سمير في أذن جيهان بأن أغاني أم كلثوم ممنوعة من العرض بأوامر عليا. رداً على همس سمير، ذهبت جيهان إلى حيث تجلس أم كلثوم وسلّمت عليها، ثم نادت على وزير الإعلام، وقالت له: "من فضلك، لا بد أن تذاع أغاني أم كلثوم بكثافة".
وبعدها بيوم، اتصلت أم كلثوم بسمير واستدعته إلى بيتها، وشكرته وقالت له إن ما فعله لم يستطع "أي شنب في مصر" أن يفعله، بعودة أغانيها للبث بعد شهور من التوقف.
لم تكن تبدي خضوعاً أو انكساراً أمام السلطة، واستجد وقتها تغيير آخر ألا وهو منح جيهان السادات لقب "السيدة الأولى" في تقليد لم تعرفه مصر من قبل، ومع تصدر جيهان السادات المشهد، لم يعد مسموحاً أن تظهر أم كلثوم كأهم سيدة في مصر، كما هو معتاد.
ورغم ذلك، لم يستطع نظام السادات الاحتكاك بقوة أو علناً مع أم كلثوم، بفضل شعبيتها الطاغية ومكانتها واقتصر الأمر على المضايقات ومحاولات تقليل نفوذها، من خلال منع بث أغانيها أو تلميع مطربات أخريات، وكانت هذه المحاولات في الغالب مصدرها زوجة الرئيس وليس الرئيس نفسه، بحسب ما يذكره حنفي المحلاوي.
سعاد حسني: من النجومية إلى العزلة
أيقونة الجمال والفن في الستينيات والسبعينيات. اختفت سعاد حسني فجأة بعد فيلم «الراعي والنساء»؛ لأسباب لم تكن فنية، بل سياسية واجتماعية، إذ همّشت لعدم انتمائها إلى شبكة المصالح في عهد مبارك. عانت من الاكتئاب والمرض، وانتقلت إلى لندن، حيث عاشت في عزلة. ظهرت تسريبات عن نيتها كشف تجاوزات في الإعلام والأمن، وارتبط اسم صفوت الشريف ببعض الروايات التي ألمحت إلى علاقة بين وفاتها وغموض رحيلها.
شيريهان: من وهج الثورة إلى الصمت
برزت شيريهان كأيقونة فنية في الثمانينات والتسعينات، قبل أن تتحول إلى رمز للثورة بمشاركتها في مظاهرات يناير 2011، وهتافها بسقوط النظام. سبق ذلك حادث غامض في التسعينات كاد يودي بحياتها، رُبط بعلاقتها المتوترة مع أسرة مبارك، وتحديدًا سوزان مبارك؛ بسبب رفضها الخضوع للضغوط السياسية والاجتماعية. ابتعدت عن الفن بعد الحادث، ثم عادت لاحقًا بهدوء، وقد رسّخت صورتها كفنانة دفعت ثمن مواقفها الشخصية والسياسية من صحتها وحياتها.
إيمان الطوخي: ضحية الشائعات والتجاهل
جمعت بين التمثيل والغناء، وبلغت أوج نضجها الفني في أواخر التسعينيات. لكن اعتزالها المفاجئ عام 2002 فسر بوجود علاقة عاطفية مزعومة بمبارك، رغم عدم ثبوت هذه الإدعاءات. تعرضت لتهميش إعلامي، واختفت من المشهد دون تكريم أو اهتمام بأعمالها.
محمد فوزي: فنان خذلته الثورة
كان محمد فوزي من أبرز داعمي حركة 1952، لكن تأميم شركته «مصر فون» عام 1961 شكّل نقطة تحول مأساوية في حياته، إذ همّش إعلاميًّا وفنيًّا، رغم وطنيته، في حين استُثنيت شركات فنانين مقربين من النظام. بعد هزيمة 1967، لم يجد النظام أغنية وطنية واحدة تصلح للإذاعة؛ لأن كلها تمجد في عبد الناصر، ما عدا أغنية فوزي «بلدي أحببتك يا بلدي» كانت الوحيدة التي لم تتغن بالزعيم، وإنما تغنت بالوطن.
عانى فوزي من الاكتئاب وسرطان العظام، وتوفي دون علاج مناسب، في نهاية تجسد قسوة التهميش السياسي لفنان خرج عن مظلة السلطة.
سعيد صالح.. نزيل السجون
خاض الكوميديان سعيد صالح تجربة السجون المصرية عام 1983م؛ بسبب إسقاط سياسي أثناء عرض «لعبة اسمها الفلوس»، بعد أن خرج عن النص قائلًا: «أمي اتجوزت 3 مرات؛ الأول أكلنا المش، والتاني علمنا الغش، والتالت لا بيهش ولا بينش»، واعتبرت إسقاطًا على ناصر والسادات ومبارك. فأُوقف على ذمة التحقيق لمدة 17 يومًا، ثم أُفرج عنه، وتمت ملاحقته بعد ذلك فصار نزيل السجن عدة مرات بتهمة تعاطي الحشيش.
-------------------------
بقلم: إيمان النقادي
من المشهد الأسبوعية