مصر منذ قبل التاريخ بتاريخ، لا تتمتع بثروات طبيعية مثل النفط وخلافه. ولكن مصر منذ أن وجدت، تتمتع بمكانها ومكانتها التي أوجدت تلك الدولة المركزية والمؤسسية، قبل أن يعرف التاريخ الدولة.
فكانت الدولة التي كانت فجر الضمير العالمي بفكرها، وديانتها، وتاريخها، وحضارتها، وقواها الناعمة.
وكانت تلك القوى الناعمة هي إحدى أهم المقومات للهوية المصرية، حيث أنه لا قوى ناعمة بغير إنسان يعي الثقافة، وينمي الفكر، ويفعل العقل.. ولذلك كانت، وما زالت، وستظل هذه القوى الناعمة المصرية، تلعب ذلك الدور الذي أصبح يمثل ركنًا مهمًّا في كيان الدولة المصرية.
ومن المعروف أن القوة الناعمة تتمثل في الأساليب الثقافية والفنية (مسرح، سينما، دراما، موسيقى، فن تشكيلي، فنون شعبية... إلخ) إضافة لدور المدارس، والجامعات المصرية، والإعلام.
ونذكر هنا بالدور الهام والمهم الذي قامت به السينما المصرية، منذ ثلاثينيات القرن الماضي. فمن حيث العائد المادي كانت السينما المصدر الثاني بعد القطن، في إيرادات الموازنة العامة. ناهيك عن نشر الثقافة، والعادات والتقاليد، واللهجة المصرية في سائر البلاد العربية؛ مما ساعد في تأكيد دور مصر الثقافي والعلمي.
وإدراكًا لهذا الدور المهم، قامت ثورة يوليو بثورة ثقافية غير مسبوقة في التاريخ المصري؛ فتم إنشاء المعاهد، والأكاديميات الثقافية، والمسارح المتنوعة. والأهم، وإعمالًا للديمقراطية الثقافية، كانت قصور ومراكز وبيوت الثقافة التي انتشرت على مستوى المحافظات، والمراكز، والقرى.. الشيء الذي أحدث ثورة ثقافية طالت كل طبقات الشعب؛ مما ساعد في زيادة الوعي، الذي هو البداية الحقيقية في تكوين الشخصية المصرية ذات الحضارة، والهوية، والانتماء الوطني الحقيقي. وكانت لتلك البنية الثقافية أدوار مهمة في تنمية الوعي واكتشاف المواهب، خاصة في القرى والنجوع؛ مما يضيف للوطن ثروات بشرية تفوق وتتفوق على الثروات الطبيعية. ولكن - آه من ولكن هذه - وجدنا بعد انفتاح السبعينيات، تلك الهجمة التترية على الثقافة، التي تحولت إلى تجارة، بعد أن كانت خدمة تقدم للمواطن حسب الدستور. فتحولت السينمات إلى مولات تجارية، وأغلقت المسارح (والمسرح أبو الفنون)، وأصبحت أسعار الكتب تفوق كل القدرات المالية، وتدهور التلفزيون المصري (العربي) الذي كان له السبق والدور الأساسي في وجود كل الإعلام العربي بكوادره الإعلامية.
والطامة الكبرى هي تحول قصور ومراكز الثقافة إلى خرابات إدارية، لا علاقة لها بالثقافة من قريب أو من بعيد!! ناهيك عن القرار اللوذعي للوزير اللوذعي المثقف، بغلق بعض بيوت الثقافة، بحجج لا تليق بأي رؤية ثقافية، إذا كانت هناك رؤية من الأساس. الأغرب، وتأثرًا بهذا المناخ، لم نجد حزبًا سياسيًّا، أو محافظًا، أو مسؤولًا يهتم بالثقافة! هذا يحدث في ظروف وتحديات غير مسبوقة يمر بها الوطن، مما يستدعي التفعيل الفوري لكل البنى التحتية للثقافة، بكل وسائلها المتنوعة؛ لمواجهة تلك التحديات. فما هي المعضلة للمحافظين وموظفي الثقافة، في عقد ندوات على كل المستويات، واستضافة كل الرموز السياسية والثقافية، للمشاركة في هذه الندوات؛ لمواجهة تلك الهجمات البدوية ضد الهوية والثقافة المصرية، ولتأصيل الانتماء الوطني بالحديث عن تلك الشخصية المصرية الواحدة، في مواجهة ذلك المناخ الطائفي الذي يهدد سلامة الوطن؟
مصر تحتاج إلى جهود الجميع بإخلاص. الوطن يحتاج إلى الدور الثقافي والتوعوي؛ لإعادة بناء الإنسان المصري.
حفظ الله مصر وشعبها العظيم.
----------------------
بقلم: جمال أسعد