28 - 05 - 2025

إضاءة جبل قاسيون: حضر من قدم المال وغاب من صان الكرامة! شكرًا سوريا

إضاءة جبل قاسيون: حضر من قدم المال وغاب من صان الكرامة! شكرًا سوريا

 الإضاءة تكشف وجهًا جديدًا لصراع الدعم في الأزمة السورية في ظل صراع إيراني خليجي محتدم

في مشهد رمزي لافت، أضاء ليل العاصمة السورية دمشق، بعبارات شكر موجّهة إلى السعودية، وقطر، والإمارات، على سفح جبل قاسيون، تعبيرًا عن "الامتنان" لدعم هذه الدول للشعب السوري في أزمته المستمرة. لكن خلف هذا الامتنان المُنتقى، اختبأت سردية ناقصة، تجاهلت دولًا أخرى كان عطاؤها أكثر صمتًا وعمقًا، وعلى رأسها مصر، التي لم يُذكر اسمها رغم احتضانها لملايين السوريين دون مِنّة أو دعاية.

هذه الإضاءات لم تكن بريئة تمامًا، فالدول المُحتفى بها ليست فقط مانحة للمساعدات، بل كانت، منذ السنوات الأولى للصراع، طرفًا فاعلًا في تأجيجه وتسليحه، إذ تحولت سوريا إلى ساحة تصفية حسابات بين دول الخليج بقيادة السعودية وقطر، وبين إيران، الحليف الأوثق للنظام السوري.

ومنذ عام 2012 تدفقت الأموال والأسلحة من الخليج إلى فصائل المعارضة، تحت لافتة دعم الثورة، بينما عززت طهران حضورها العسكري والسياسي عبر قواتها الموجودة في الأراضي السورية.

في خضم هذه المعركة الإقليمية، غُيّبت الثورة، وتحوّل الشعب السوري إلى وقود في حرب نفوذ إقليمي، لا مكان فيها للكرامة أو الوطن. وبينما أُضيئت الكلمات على الجبل، ظلّت الحقيقة في الظل؛ أن من قدّم المال قد يُشكر على الجدران، لكن من قدّم المأوى والكرامة، يستحق أن يُحفر اسمه في الذاكرة.

سوريا بين مطرقة الخليج وسندان إيران

لم تكن الحرب في سوريا مجرد صراع داخلي، بل تحوّلت منذ أيامها الأولى إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات بين قوى إقليمية متنازعة. ففي الوقت الذي دعمت فيه إيران النظام السوري سياسيًّا وعسكريًّا، عبر الحرس الثوري وقواتها في لبنان والعراق، سارعت دول الخليج وعلى رأسها السعودية وقطر، إلى دعم المعارضة المسلحة وتمويلها بمليارات الدولارات، في محاولة لاقتلاع النفوذ الإيراني من قلب الشام.

هذا التدخل المتبادل لم يكن دافعه نصرة الشعب السوري، بل تنازعٌ على النفوذ، ورغبة في إعادة رسم خرائط القوة في المنطقة. ووفق تقارير دولية موثقة، ساهمت الرياض والدوحة في تسليح فصائل متعددة، كثير منها لم يكن خاضعًا لضوابط واضحة، الأمر الذي أدّى إلى تصعيد العنف، وانتشار الجماعات المتطرفة، وتفكك بنية الدولة.

تحوّلت سوريا إلى حرب وكالة مدفوعة بأجندات لا تمّت بصلة إلى طموحات السوريين الأولى، فغابت الثورة، وحضرت المصالح، وغرق السوريون في جحيم حربٍ خاضها الآخرون على أرضهم وبدمهم.

الدعم الخليجي.. أرقام سخية مقابل استقبال محدود

لا يمكن إنكار الدور المالي الكبير الذي قدمته دول الخليج في دعم الشعب السوري، سواء عبر المنظمات الأممية أو المساعدات المباشرة، فقد قدمت السعودية ما يقارب 700 مليون دولار كمساعدات إنسانية، واستقبلت نحو 2.5 مليون سوري تحت تصنيف "زائر" أو "مقيم للعمل"، دون منحهم وضع اللاجئ الرسمي.

أما قطر فقد تجاوزت مساهمتها حاجز 2 مليار دولار، وفي العام الحالي أعلنت عن تمويل شهري بقيمة 25 مليون دولار؛ لدفع رواتب موظفي الحكومة السورية، إلى جانب استمرار دعم اللاجئين في لبنان والأردن بملايين الدولارات.

أسهمت الإمارات أيضًا بمبلغ تعدى المليار ومئة مليون دولار؛ من خلال مشاريع مثل: مخيم "مريجيب الفهود" في الأردن، والمستشفى الميداني في المفرق، فضلًا عن مشاركتها في إعادة إعمار سوريا.

ورغم هذه الأرقام الضخمة، بقي استقبال اللاجئين السوريين على أراضي هذه الدول محدودًا، ومقيدًا بشروط صارمة، ما يضع حدودًا على القدرة الحقيقية لهذا الدعم في احتضان اللاجئين.

مصر.. دعم إنساني صامت ومبدأ ثابت

على النقيض، تبنّت مصر نهجًا إنسانيًّا مختلفًا تمامًا، حيث فتحت أبوابها للسوريين منذ اللحظة الأولى للأزمة، دون تصنيفهم كلاجئين، وإنما كإخوة وشركاء في المجتمع. لم تُقم مصرمخيمات للاجئين، ولم تفرض قيودًا معيشية تعيق اندماجهم، بل سمحت لهم بالعمل، والتعليم، وإطلاق مشاريع خاصة بهم.

وأكد الرئيس عبدالفتاح السيسي في تصريح عام 2016، أن السوريين في مصر يُعاملون كمواطنين، وليسوا لاجئين، ما يعكس التزامًا إنسانيًّا عميقًا في ظل ظروف داخلية صعبة تواجهها مصر، جعلت من هذا الاحتضان تعبيرًا عن مبدأ إنساني، لا عن مصلحة اقتصادية بحتة.

صوت من الداخل السوري: مصر ملجأ الكرامة

وفي تعليق متداول على مواقع التواصل الاجتماعي، عبّرت سيدة سورية عن امتنانها لمصر قائلة:

"مصر لحالها أحسن بلد بالمعاملة شعبًا وقانونًا.. هي أكتر بلد عطت وش للسوريين، لا قانون معقد ولا تمييز.. جربنا الخليج وعرفنا إنو مصر جنة.. في مليون سوري بمصر، وربعهم مخالفين، ومع هيك ولا حدا حكى معهم شي.. لا دراما، ولا قوانين تعجيزية، ولا ترحيل".

وأضافت: "ما بعرف ليش كل مرة بتكرروا إنو الحكومة المصرية لازم تحل.. هي أصلًا ما قصرت، واللي ما جرب ما يعرف".

هذا الصوت الشعبي يعكس تقديرًا عميقًا من جانب شريحة من السوريين الذين وجدوا في مصر الأمان، والاحترام، وكرامة العيش، رغم كل الظروف والتحديات.

الامتنان الحقيقي لا يُقاس بالدعم المادي

رسائل الشكر التي أُضيئت على جبل قاسيون، سواء كانت مبادرة شعبية عفوية، أم صادرة عن جهات رسمية داخل الدولة السورية، تطرح تساؤلات لا يمكن تجاهلها، فهي وإن حملت طابعًا رمزيًّا، إلا أنها تكشف عن رؤية مجتزأة، فحين يُختزل الشكر فيمن قدّم المال، ويُغفل من قدّم المأوى والكرامة، يجعلنا نتساءل: هل الامتنان الحقيقي يُقاس فقط بالدعم المالي؟ وماذا عمَّن فتح الأبواب، وشارك اللقمة، ووفّر الأمان بلا شروط ولا استعراض؟

إن تجاهل مصر في مشهد الشكر، لا يقلل من قيمتها ولا قيمة ما فعلته تجاه السوريين، بل يطرح تساؤلات حول معايير التقدير لدى بعض الجهات، وهل هي مبنية على الصورة أم على المضمون؟

تتعدد صور الدعم، وتتفاوت دوافعه، لكن تبقى القيم وحدها الميزان الحقيقي، ومصر التي لم يتوهّج اسمها على جبل قاسيون، لم تكن يومًا بعيدة عن جوهر القضية، فهي لم ترفع شعارات، ولم تسعَ إلى شكرٍ معلن، ولا إلى تصفية حسابات مع دول أخرى على أرض ملك للسوريين، بل آثرت أن تمنح بصمت، وأن تحتضن بكرامة، دون مِنّة ولا ضجيج. وبينما اختار البعض أن يساند من بعيد، اختارت مصر أن تكون قريبة، بالفعل لا بالقول، وبالواجب لا بالمنّة.
--------------------------------
تقرير - إيمان جمعة