في خضم التناول المجتمعي لقضية الطفل ياسين، ظهر مشهد غير مألوف في ساحات النقاش العام، لكنه هذه المرة أكثر حدة وتنظيمًا. تعالت أصوات متعصبة من الجميع، لا سيما من بعض الأقباط، لا للدفاع عن الحقيقة أو العدالة، بل لفرض رأيهم عبر الترهيب النفسي والفكري والغوغائي، وصلت لحد التشهير والابتزاز الديني، والهجوم المنظم على فئه المستنيرين والشخصيات العامة، وكل من يطرح تساؤلًا مشروعًا أو يدعو إلى احترام كلمة القضاء. يمكن تصنيف هؤلاء المتعصبين إلى عدة فئات، تختلف في الدوافع والأساليب لكنها تلتقي عند نقطة واحدة، هي رفض أي أحتمال لإدانة المتهم، مهما بلغت الأدلة المقدمة، أو باتوا متشككين أو متأثرين بأجواء الشحن الطائفي، أو بمرافعة أحد المحامين، أو ربما عدم معقولية بعض الأحداث من شدة الهول والفاجعة، وعدم وضوح وتسلسل الأحداث وغياب الصورة الكاملة، أو ربما عدم فهم لأبعاد وجوانب القضية من الناحيه القانونية المعقدة، ودخولها في أكثر من طور. وهذه الفئات تتوزع كالتالي:
- البعض لجان إلكترونية وكتائب منهجية، كمثل المستخدمة للهجوم على قداسه البابا تواضروس، وهي معنيه بالتشكيك والعشوائية، ومملوءة بالكراهية. غالبًا ما تكون هذه المجموعات مدعومة من منظمات خارجية ذات أجندات مغرضة، ومنبثقة تحت عباءة توظيف الحدث في الخروج ببعض المكتسبات، من خلال القفز على الدولة؛ مثل: جمع تبرعات، أو دفع تمويلات، أو تحقيق اللجوء الديني عبر وقائع مصاحبة للحدث، من خلال سكب الزيت على النار. وتستثمر في إشعال الفتنة وخلق حالة استقطاب طائفي، في إحدى أكثر القضايا التي كشفت عن حجم التوتر الكامن في بنية المجتمع، وعن الصراع الداخلي بين الأجنحة المتنازعة داخل أجهزة الدولة. ولم تكن القضية مجرد مأساة فردية، بل تحوّلت سريعًا إلى ساحة صراع سياسي وأمني، بين فريقين داخل النظام؛ أحدهما سعى إلى توظيف الحادثة لتغذية التصعيد الطائفي، والآخر عمل على احتوائها وتهدئة الشارع تفاديًا لانفجار أكبر.
ومنذ لحظة انكشاف الحادثة، برزت شواهد واضحة على أن بعض الجهات داخل الدولة دفعت باتجاه التصعيد.
هذا الفريق، المرتبط عادة بجناح أكثر تشددًا في المؤسسات الأمنية والإعلامية، عمل على توجيه الخطاب العام نحو تحميل الطائفة المقابلة مسؤولية جماعية، مستثمرًا مشاعر الغضب الشعبي لتوسيع الاستقطاب الطائفي. وقد تزامن هذا مع ضخ إعلامي كثيف عبر قنوات ومنصات موالية لهذا الخط.
لم يكن هذا التحريض داخليًّا فقط، بل جاء أيضًا كرد فعل على ضغوط من منظمات حقوقية وإعلام خارجي، استغل القضية في توجيه الاتهامات للنظام بعدم حماية الأقليات أو بالتستر على الجناة. وردًّا على هذا، استخدم جناح التصعيد الحادثة ليوجه رسائل مضادة.
في المقابل، تحرك جناح آخر داخل الدولة، يميل إلى تغليب منطق التهدئة والحفاظ على الاستقرار المجتمعي. هذا الفريق، المرتبط بالأجهزة السيادية، أدرك مبكرًا أن تحويل الحادثة إلى أزمة طائفية موسّعة، قد يُفجّر الشارع بشكل لا يمكن ضبطه، خاصة في ظل هشاشة البنية الاجتماعية. وما تكشفه قضية الطفل ياسين ليس فقط مأساة إنسانية، بل اختبار فعلي لمدى قدرة الدولة على ضبط صراعاتها الداخلية، ولقدرة مؤسساتها على الفصل بين إدارة الأزمات والحروب البينية. واللافت أن الأجهزة نفسها لم تكن على قلب رجل واحد، بل تحركت في اتجاهات متباينة تفضح طبيعة الصراع المستتر داخل النظام.
وتمارس هذه الكتائب حملات تشويه مكثفة ضد كل من يتبنى رأيًا مخالفًا، وتستخدم وسائل التواصل كمنصة لبث التحريض والفبركة والتهويل، حتى ظن هؤلاء أنهم احتكروا الدين لأنفسهم، كمثل حماه الإيمان والمتحدثين باسم الله والطائفة، وما هم إلا شرذمة ضالة لا تعبر عن الأغلبية، وتهدف لاستمرار تكريس الانقسام، حتى بدا الأمر كأننا فريقان متناحران، مدجج كلاهما بمشاعر سلبية للآخر، وكلاهما غير مؤهل، وتناسى البعض أنها احدى أساليب حروب الجيل الرابع والخامس.
أما التيارات الدينية المتشددة، فهناك فئة تتبنى خطابًا دينيًّا أقرب للتطرف الديني، ترى أن مس أحد أفراد الجماعة الدينية إنما هو استهداف مباشر للدين نفسه. هؤلاء لا يعترفون بالقانون أو بالعدالة ما لم تأت بما يوافق انحيازهم المسبق، وهم غالبًا منغلقون على خطاب داخلي يؤسس لمظلومية دائمة، مضلَّلون بالميديا العشوائية والموجهة. وهناك فرق بين محاولة اختطاف كوادر التنظيم الدّوَليّ لقضية تمس الطفولة، واللعب على وتر حساس، لتبدأ في عمل موجة من الشحن الطائفي والإثارة، عبر اختلاق بعض الوقائع التي لم تكن بالأوراق الرسمية، وبث سيل من الهجوم الممنهج تجاه كل أقباط مصر، وتوظيفها نحو التراشق، والتخبط، والعبث النمطي، واستغلال فئة المتشددين، وتوجيهها نحو وجود نية مسبقه لإدانة المتهم، وكأن القضاء انساق وراء غوغائيين، وأصدر حكمًا سياسيًّا على بريء، بحجة أن القضية ملابساتها دينية بسبب التظاهرات، وهو نوع من توظيف الضعف الذي وقعت به الدولة في اتجاه التسويق للطعن في الحكم، وهو تناول مفضوح يدفع للتخبط والتشكيك في منظومة القضاء.
وهنا نجد مجموعة أخرى من الأشخاص، انساقت وراء عناوين مضللة، وصور مجزأة، وفيديوهات منزوعة السياق، دون أدنى تحقق، وبادروا بإطلاق سيل من الشائعات في محاولة لتبرئة المتهم على حساب العدالة، ويعززون روايتهم بأكاذيب. هؤلاء يعتمدون على ما تروجه حسابات غير موثوقة إعلاميًّا، ويعادون كل من يحاول لفت انتباههم إلى الحقيقة أو يعرض وجهًا آخر للوقائع. ثم أن العيش في وهم المظلومية العبثية، تعيشها فئة أخرى تتبنى خطابًا دائمًا عن الاضطهاد التاريخي، وترفض تمامًا أن تضع احتمالًا واحدًا بأن المتهم – الذي لم تبرئه المحكمة – قد يكون مدانًا فعلًا. إنهم يرون في كل حكم قضائي لا يوافق أهواءهم دليلًا على "اضطهاد" ممنهج، حتى لو كان القانون منصفًا والأدلة متواجدة. ونحفظ لهم حقهم في حريه تفكيرهم وإطلاق عنانهم بلا أدنى شك، بشرط أن يحافظوا على نفس مساحة حرية الرأي للآخرين. بعكس ما نراه حاليًا من محاولات للدفع في هذا الاتجاه، حتى وصلت رعونة هؤلاء وضيق أفقهم، إلى أن يتم تشبيه المتهم بالسيد المسيح، وكل من ضده هو يهوذا يخون معلمه ودينه! فهذه هرطقة واضحة ومزايدات سخيفة، تدور داخل بوتقة دينية نابعة من حفنة من المتعصبين والدراويش، يختلفون في الطبقة الثقافية والدرجات العلمية، ويتدرجون حسب بيئتهم الاجتماعية، فيكون رد فعلهم مبالغًا فيه، يتنطعون فكريًّا واجتماعيًّا، وينزلقون نحو الهاوية، ويصمون الجميع معهم، ويتعمدون التجريح واستخدام البذاءة بعقول مظلمة وقلوب باردة. لم يمر عليهم مصطلح اسمه "المواطنة" تجعل من الأسوياء يدافعون عن حقوق الجميع بلا استثناء، بدلًا من استبدالها بمخزون في نفوس المرضى كرد فعل على ما قام به الإخوان والمتشددون، وكأنها أخذت ذريعة لإطلاق العَنان لحتمية براءة المتهم، وكأن هذه التبرئة بمثابة شهادة تقدير لكل المدارس التي لها إدارة تتبع مؤسسة دينية، على العكس تمامًا، إنما يمثل خطأً فرديًّا يحاسب عليه المتهم منفردًا في معركة خاصة وليست جماعية، مهما كانت له تداعيات بدت تخص الأقباط، فحتى البراءة أيضًا تخصه وحده.
فأي مؤسسة دينية يوجد بها عاملون، بشر عاديون يخطئون ويصيبون تحت التجارب، ليس فيهم نبي أو مسيح، ولا ينبغي للمؤسسة التابعين لها التغطية على جرائمهم، بل يجب أن تدفع نحن تحقيق العدالة، وفي نفس التوقيت تحاول أن تقوم بحقوق العاملين عليها مثل: شهادة سير وسلوك، أو إجراء تحقيقات داخلية، أو الدفع بمحامين، مثل أي مؤسسة بشكل متوازن. فمن يرشق الآخر ويتهمه بأنه "يهوذا"، صار هو نفسه خائنًا لتعاليم دينه التي أرشدته لنصرة الحق والضعيف، ليس من وجهة نظره، وليس بنسج أوهام واختلاقها لتشويه سمعة أحد، والتطرف في الانتماءات السياسية، وإطلاق سيل من الشائعات لتدعيم موقفهم وتبييض ثوبهم، وتبادل الاتهامات، فكلاهما مرفوض. فهؤلاء ليسوا إلا "بارباس" التي ساوم به اليهود السيد المسيح أثناء المحاكمة أمام بيلاطس، وكان مثيرًا للفتن، لا يمكن أن يخرج للحرية إلا مقابل تسليم السيد المسيح للموت، فاختار الجمع شخصية غير سوية بها العبر وتفضيله على رئيس السلام الذي نزلت كلمته بالحق وعري نفاقهم، وكانت كلماتهم جوفاء تخلو من المحبة والرحمة، فأي تعاليم يتبع هؤلاء؟ فالحق ليس وجهه نظر، بل منطوق المحكمة عنوان الحقيقة، وما دامت هناك أركان ناقصة ومعلومات لم تظهر للعامة، فلماذا التكالب على كل من يأخذ صف الطفل؟ وهناك فرق بين الحق القانوني والحق الاجتماعي أو الإنساني في تكوين الرأي، فمن حق العامة أن يميلوا برأيهم مؤقتًا بعد حكم أول درجة، استنادًا إلى المعطيات التي أمامهم، وتكوين عقيدة نابعة من حكم المحكمة، لكن ليس من حقهم أن يجزموا بالإدانة أو البراءة النهائية، أو شيطنه من يخالفهم، قبل أن يُحسم الأمر قضائيًّا بشكل نهائي. ويجب احترام حق المتهم أيضًا في الطعن، لكن دون تبني رأي قاطع يطعن في الحكم نفسه، فالعدل أساس الملك.
أما عن المؤدلجين ضد الدولة، فهناك من يستثمر فيهم لتحويل القضية إلى صراع مفتعل معها، لا لأنهم معنيون بالعدالة، بل لأنهم يرون فيها فرصة لتقويض مؤسسات الدولة والنيل من مصداقيتها. هؤلاء يتجاهلون الوقائع القانونية ويضخمون الحادثة؛ لتصويرها كمعركة وجود بين الأقلية والدولة. إن أخطر ما في هذا المشهد هو محاولة فرض الرأي تحت سطوة الترهيب، وتحويل النقاش من مسار العدالة إلى صراع، وكأن التعاطف مع طفل مكلوم صار جريمة في نظرهم، ويدعمون فكرهم بحديث أحد الأساقفة الذي خرج للتهدئة بتعليمات! والغريب أنهم لا يخضعون لأي منطق في حديثهم سوى اتجاه واحد في الفكر، وكل من يخرج عنه فكأنه خرج عن الدين كله، أو بدا وحيدًا أو شاذًّا. فلا رشد أو رجاحة عقل تصلنا لهذا المشهد سوى التربيطات، والمصالح المشتركة، وسياسة القطيع، لتسويق روايات مغايرة للظهور كمدافعين عن الإيمان كله، وتمثل فرصًا للظهور الشخصي وكأنه سباق على مواقع التواصل. ولا نتحدث هنا عن حريه الاقتناع ببراءة المتهم كرأي عابر، فهذه قناعات شخصية تراكمية، لكنها مشروطه بالحيادية وعدم النظر إليها بشكل يقيد الآخرين، فإن برأته المحكمة صار الجميع ملتزمًا بها على اعتبار أننا سنتجاهل المواءمات وليس قبلها. والعجيب أن المتهم تصادف أنه موظف في مؤسسة دينية، وليس سجين رأي أو شخصية عامة، حتى تتهم هذه الفئة الدولة بالضلوع في مؤامرة، فالتهمة جنائية بحتة، وإجراءات التقاضي معروفة.
وعلى العقلاء أن يتصدوا لهذا النهج التخريبي؛ دفاعًا عن سيادة القانون وكرامة الضحية، لا عن انتماءات المتهمين. ولم ننكر يومًا أن هناك أخطاء تتعلق ببعض التمييز الطائفي، وقضايا المواطنة المنقوصة أحيانًا في الوقائع المطروحة على الساحة، لكن نحن اليوم أمام قضية إنسانية في جوهرها، ولا يجب أن تُختزل في شعارات، أو تُحوّل إلى منصة للابتزاز الطائفي أو السياسي و الديني، حتى يتوهّم البعض أنهم يحاربون الطائفية بمزيد من الطائفية، والحشد أمام المحكمة بمزيد من الحشد، وكأنهم يقاومون التحيّز بانحياز أشد، ويردّون على العنصرية بعنصرية مضادة، يواجهون المستنيرين بالمزيد من التراشق، بحجة أنهم يواجهون عنصريتهم الفجّة، ويهاجمون كل صوت حرّ لا يساير روايتهم، لا لشيء إلا لأنه يدعو للتعقّل وترك الحكم للقضاء، بدلًا من تشويش الأفكار والاندفاع. والحقيقة أن كلّ ما يسعون إليه هو إسكات أصوات الآخرين، وكل من يجرؤ على الدفاع عن بريء، أو يشكّك في سردية "الملاك المضطهد" التي يروّجون لها. والغريب أنه وصل الأمر بالجمود الفكري إلى حد رفض مصطلح "مسيحيين متعصبين" بزعم عدم حمل السلاح، وهي مغالطة شائعة تُستغل لتبرئة سلوكيات متعصبة لأنها لم تتحوّل إلى عنف مادي. فالتعصّب ليس فقط رصاصة تُطلق، بل قد يكون كلمة تُمزّق، وتحريضًا ينتشر، وتشويهًا يدمّر السمعة، وضغطًا نفسيًّا يكمّم الأفواه يستقر في نفس يعقوب. وبالفعل لم يعرف المسيحيون إلا التعايش جنبًا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين. إلا أن هناك أبواق فتنه خارجية تغذي مشاعر الكراهية تجاه الدين، نابعة من التيار اليميني السائد في العالم، ويتأثر بها البعض، حتى يصل بهم الأمر للدفاع عن سلوكيات مدرسة تحت رعاية الإبراشية، بدلًا من التنصل وإصلاح الأخطاء والاعتراف بها، كما حدث في مدرسة "كابيتال". فما المانع من إرسال مندوب من التربية والتعليم للرقابة على الإدارة داخل أسوار المدرسة؟ فلا يعد ذلك خطه للاستيلاء على أرض المدارس الخاصة بالمسيحيين بلا إصلاح مسار تربوي، فهي ليست قضية تنافس مع مدارس إسلامية كما يُروّج، بل ملف المدارس الخاصة جميعها. فمن حرّض ضد المستنيرين، ومن خوّن المختلفين، ومن مارس التنمّر الجمعي والإرهاب الفكري، كل هؤلاء متعصبون، حتى وإن لم يطلقوا رصاصة واحدة. والتاريخ لم يبدأ اليوم، والفتن الكبرى لم تشتعل بالسلاح فقط، بل بدأت دائمًا بكلمة مسمومة، وموقف متعجرف، ورفض للاعتراف بحق الآخر، وجر الأمة للطائفية. إن قضية دمنهور بكل تعقيداتها، لم تكن مجرد حادثة عابرة يجب تناولها بكل حساسيتها وملابساتها، بل كانت مرآة صادقة كشفت صدأ القلوب، وزيف العقول، وسقوط من ظنناهم يومًا أصحاب مبدأ. تكشفت الوجوه، وسقطت الأقنعة، فمنهم من كان ذهبًا خالصًا، ومنهم – وكانوا الأكثر – طينًا مشبعًا بالادّعاء والتلون، منهم من كان مضللًا ومثقلًا بمعلومات متضاربة، ومنهم من بحث بنفسه عن الحقيقة، ومنهم من شعر أن كرامته جرحت، ومنهم من كان أكثر علمًا ورؤية مستقبلية، ومنهم من تاه في ضلال التخبط وزيف الحقائق، أو انغمس في الهوس الديني. فكانت القضية مرآة لصراع عميق بين أجنحة الدولة، بين من أراد إشعال نار الطائفية ليكسب شرعية القوة، ومن سعى لإطفائها خوفًا من أن تحرق الجميع. وبين هذين الاتجاهين، يبقى السؤال: إلى متى يمكن احتواء التوتر دون معالجة جذوره؟
----------------------------
بقلم: جورجيت شرقاوي