هى المرة الأولى التى تُقر فيها إسرائيل بأن الجوع في غزة يقترب من حافة الأزمة، رغم التحذيرات المتكررة من خبراء الجوع حول العالم بأن القطاع على شفا المجاعة.
فمنذ 2 مارس 2025 أوقفت إسرائيل إدخال المساعدات والأدوية والوقود والغذاء إلى غزة في أطول حصار تفرضه على الإمدادات الإنسانية إلى غزة منذ بداية الحرب.
على مدى أكثر من عام ونصف كانت إسرائيل تدير أزمة الجوع فى القطاع بكفاءة، فكلما اقتربت غزة من حافة المجاعة تفتح إسرائيل معبر رفح لإنفاذ جزء من المساعدات، مع تأكيدات للاستهلاك الإعلامى بأن حصارها للقطاع ومنعها دخول الغذاء والدواء والوقود لا يشكل تهديدا كبيرا لحياة المدنيين في القطاع، حتى مع التحذيرات الأممية من أن المجاعة تلوح في الأفق .
لكن مؤخرا حذر ضباط إسرائيليين كبار القادة سرًا من خطورة الوضع المتدهور في القطاع مؤكدين أن غزة على بُعد أسابيع قليلة من المجاعة.
- أكثر من 470 ألف شخص يواجهون حالة جوع كارثية، هذا ما أكده تقرير صادر عن برنامج الغذاء العالمى التابع للأمم المتحدة، مضيفا أن 71 ألف طفل وأكثر من 17 ألف إمرأة حامل ومرضعة سيحتاجون إلى علاج عاجل لسوء التغذية الحاد، وهو ما رأيناه من خلال الصور والفيديوهات القادمة من غزة لأطفال عبارة عن هياكل عظمية ينهشها الجوع، لا تقوى على الحركة، وتنتظر الموت فى أى لحظة.
ولكى نستوعب حجم المأسأة تروى كيت نيوتن نائبة مدير برنامج الأغذية العالمي في فلسطين مشاهداتها: "تجوّلنا في أنحاء قطاع غزة، ولاحظنا باستمرار وبشكل ملحوظ انعدام الطعام. زرنا خيام الناس، وأرونا أواني الطبخ الخاصة بهم. نحن على يقين من أن الناس ينامون جائعين كل يوم، وأن هناك خطرًا حقيقيًا من أن يبدأ الناس بالموت جوعًا. يعيش الناس بين الأنقاض، في خيام، دون مرافق للطهي. أخبرتنا إحدى السيدات أنها ذهبت إلى أحد مطابخ الوجبات الساخنة المتبقية، ولم يكن هناك حتى أرز. لم تستطع إلا أن تأخذ قدرًا من الحساء يحتوي على 16 حبة فاصوليا لعائلتها المكونة من خمسة أفراد.
ربما لهذه المشاهد وما تبعها من ضغوط أوربية وأمريكية تهدد بعقوبات على إسرائيل، فقد بدأ نتنياهو يناور لاستهلاك الوقت، حيث وافق منذ يومين على إدخال الحد الأدنى من المساعدات إلى غزة، لكنه في نفس الوقت استمر فى تهديداته بالسيطرة الكاملة على القطاع.
* المجاعة "خط أحمر"
ربما يتعجب البعض من وصف نتنياهو المجاعة الجماعية التى يتعرض لها سكان غزة بأنها "خط أحمر" لكن إذا عرف السبب بطل العجب، فانتشار المجاعة على نطاق واسع فى غزة قد تكلف إسرائيل دعمها من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، فأصدقاء إسرائيل ومؤيدوها الدائمون أخبروه أنهم سيسلحون إسرائيل بما تشاء من سلاح، وسيدافعون عنها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لكنهم لا يستطيعون التعامل مع صور المجاعة الجماعية إذا ما وقعت فى غزة. لذلك فقد أعلنها نتنياهو صراحة: "لا نستطيع الوصول إلى نقطة المجاعة، لأسباب عملية ودبلوماسية".
وقد أثار قرار نتنياهو الأخير بإدخال بعض المساعدات إلى غزة انتقادات عديدة من مؤيديه فى الحكومة اليمينية المتطرفة، لكنه أكد أن القرار سيحافظ على الدعم الدولي لإسرائيل، ويمنحها مزيدًا من الوقت لحملتها العسكرية ضد حماس. ووفقا لصحيفة نيويورك تايمز فإن نتنياهو يتعرض لضغوط من حلفائه في الحكومة اليمينية المتطرفة، الذين يرغب عدد منهم في إعادة احتلال غزة والاستيطان فيها، لكنه عليه أن يوازن أيضا بين هذه الضغوط، والمخاوف داخل جيش الاحتلال حول عدم قدرة إسرائيل على استمرار احتلال القطاع على المدى الطويل.
يمكن القول أن مسألة السماح بإدخال بعض المساعدات إلى غزة سلطت الضوء على مهارة نتنياهو في إدارة الجوع فى غزة، بما يوحى باستجابته للضغوط الغربية ، وفى نفس الوقت يعلن عن بدء عملية برية أوسع فى القطاع الأمر الذى يرضى قاعدته الشعبية فى اليمين المتطرف.
تدرك إسرائيل جيدا أنه من غير القانوني أن تحد من تسليم المساعدات إذا كانت تعلم أن ذلك سيؤدي إلى المجاعة، كما تدرك أن تصريحات صناع القرار بأن الهدف من منع دخول المساعدات هو انتزاع تنازلات سياسية وعسكرية، تشكل بوضوح جريمة حرب فى القانون الدولى الإنسانى. لكنها تدرك أيضا أنها ابعد ما تكون عن المحاسبة والمعاقبة وأنها تحمل ضوءا أخضر من الولايات المتحدة ، الراعى الرسمى لكل جرائمها، كى تفعل ما تشاء وقتما تشاء ، وتدرك أن العرب مازالوا يغطون فى ثُبات عميق، ولن تحركهم بطونا خاوية تموت جوعى طالما يتم سحقها بعيدا عن عروشهم.
--------------------------
بقلم: سحر عبدالرحيم