23 - 05 - 2025

الهروب الكبير وطقوس الكتابة

الهروب الكبير وطقوس الكتابة

كانت النوتة والقلم الكوبيا من الأساسيات التي يحملها معه الكاتب الكبير توفيق الحكيم (1898-1989)؛ لتسجيل ما يطرأ على ذهنه من أفكار، حتى إذا خلا إلى نفسه، استرجع تدويناته تلك، وحولها إلى كتابات تختلف بين مقال، وقصة قصيرة، ومسرحية، وغيرها من أشكال الفنون التي تميز بها.

كان الحكيم كاتبًا فيلسوفًا، متنوع المصادر، غزير الإنتاج. ومن أشهر رواياته: عصفور من الشرق، ويوميات نائب في الأرياف، وعودة الروح، فضلًا عما تركه من مسرحيات ذهنية. وكان من عادته الكتابة في الصباح الباكر (حيث يكون العقل في قمة صفائه) بحسب تعبيره، فيكتب ما شاء له الله أن يكتب، بعد ساعات من التأمل الطويل.

ويشاركه في حب الكتابة في البكور، الأستاذ أنيس منصور (1924-2011)، الذي لم تتجاوز ساعات كتابته اليومية أربع ساعات، تبدأ من السادسة صباحًا من غرفته المطلة على نهر النيل، حتى إذا ما دقت العاشرة وضع القلم وطوى أوراقه، كطالب في لجنة الامتحان. لكنه، بدلاً من أن يضعها في يد المراقب، يدفع بها إلى المطبعة، ثم ينهض متوجهًا إلى مكتبه بجريدة الأهرام. ومع هذا، فقد ترك لنا قرابة المئتي كتاب، تنوعت بين الرواية، وأدب الرحلات، والسياسة، فضلًا عن المقالات.

أما أديب نوبل، نجيب محفوظ (1911-2006)، فكان يحرص على عادتين رئيسيتين أثناء الكتابة؛ التدخين، وخلفية موسيقية، مع عدم تناول أية مشروبات. وكان يكتب خمسة أيام في الأسبوع، كأنه في دوام رسمي، مخصصًا يومي الخميس والجمعة للالتزامات الاجتماعية، وخاصة مقابلة أصدقائه من "الحرافيش"، وكان يستفيد من رياضة المشي اليومية من بيته إلى المقهى، ثم إلى مكتبه في الأهرام، للتفكير في مقالاته وحبكات قصصه.

على الجانب النسائي، تختلف طقوس الكتابة في ظل مزيد من الارتباطات بالأسرة والأولاد، في مراحلهم الحياتية المختلفة. في كتابها الشيق "امرأة الأرق" تستعرض ميرال الطحاوي جوانب من حياتها الشخصية، وآراءها في الحياة والأدب، منها: طقوس الكتابة قبل زواجها، وشعورها بمراقبة عيون كل من في البيت "ومخبروك دائمًا ورائي.. عيونهم ورائي.. أنوفهم ورائي.. أقدامهم ورائي..." كما يقول نزار قباني في أحد مقاطع قصيدته "هوامش على دفتر النكسة".

كانت تحاول اقتناص بعض سويعات "أثناء حظر التجوال الليلي في البيت" بحسب تعبيرها، وهو الوقت الذي يخلد فيه الجميع للنوم، فتهرع إلى القلم الرصاص، وتشتبك مع الحروف والكلمات، وبهدف تضليل تلك العيون، كانت تكتب في كراسات دروسها المدرسية، تكتب دفعة واحدة كل ما اختزنته عميقًا بحيث لا يراه أحد، ومع هذا لم يكن الخوف يفارقها حتى وهي تكتب بشكل مُشفر يعتمد الرموز، كانت تشعر دائمًا أنها ابنة القبيلة المحاطة بالمحظورات.

على النقيض من ذلك، كانت الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي (1890-1976)، المعروفة برواياتها البوليسية، تسترخي في حوض الاستحمام، وتتناول بعض قطع التفاح، عندما تشغلها حبكة إحدى رواياتها. ولم يتح هذا المستوى من الرفاهية لميرال حتى بعدما تزوجت وصارت أُمَّا، تتحرك بحرية في بيتها الخاص ولا تخشى العيون، إذ كانت تستجدي الوقت وسط معارك المطبخ اليومية، وتحضير الرضعات، باحثة وسط صخب اليوم عن لحظات الهروب الكبير، تلك التي يسمح فيها الآخرون لها أن تنفرد بنفسها وأوراقها.

وأراني لا أستبعد تأثر ميرال بهذه الخلفية الاجتماعية في كتاباتها، وأبرزها رواية "بروكلين هايتس"، وقد نالت عنها جائزة نجيب محفوظ للأدب عام 2010، عندما جعلت من الشخصية المحورية لروايتها، أمًّا من أصول شرقية، تهاجر مع طفلها إلى أمريكا، وتقيم في حي بروكلين بنيويورك، وتجد نفسها بين جنسيات وثقافات مختلفة، تشعر معها بآلام وعذابات المهاجرين من جهة، وبين الهوية الممزقة بين الشرق والغرب من جهة أخرى.

صورة أقرب لشخصية محسن في رواية عصفور من الشرق، حين قال توفيق الحكيم على لسانه: "كنت أظن أني أعيش في عالمين، عالم الشرق الذي ولدت فيه، وعالم الغرب الذي أعيش فيه، لكني اكتشفت أني أعيش في عالم ثالث، عالم الاغتراب". أخفق في هروبه الكبير!
----------------
بقلم:
د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

الهروب الكبير وطقوس الكتابة