22 - 05 - 2025

الغضب المسفوح

الغضب المسفوح

هذان رجلان قد وقفا بميدان رمسيس بالقاهرة، وقد وليا وجهيهما يريدان طنطا، وعند كل منهما وعاء فيه كفايته من الوقود يبلغه  مقصده، فأما أحدهما فوقف فى رمسيس فأراق وقوده على الأرض وأشعله نارًا ارتفعت والتهبت ثم خبت وانطفأت، وهو بعد لم تزايل قدماه مكانهما، فلا طريقًا قطع ولا وقودًا أبقى! وأما صاحبه فالتمس لنفسه مركبة فأفرغ فيها ما عنده من وقود، ثم أدارها فانطلقت به حتى بلغت به مقصده ووجهته.

فذلك مثل الغاضب الذى يحسن الاستعانة بغضبه على حاجته حتى يبلغها، وبين غاضب آخر يريق غضبه على قارعة طريق أو فى رُحبة ميدان ثم يتولى عنه!

فكم من ملايين المتظاهرين قد سفحوا وقود غضبهم هدرًا ما بين هتاف وصياح ومناشدة فى ساحة ثم مضوا، فلم يسمعهم أحد، ولا أجاب سؤلهم مجيب! بل إنى لأزعم أن الحكومات أحرص على عقد التظاهرات من المتظاهرين الداعين لها، ذلك أنها تكون بإذن الدولة وتحت أعين رجالها، وتكون معروفة الزمان والمكان والهتاف، ثم هى تُرفِّه عن الناس، وتُنفس من ضيقهم، ويستريح المتظاهر بعدها إذا أحس أنه قد أدى الحق الذى عليه فتبرد حميّته، وينفد وقود عزمه بعدها، فلا ينهض لشىء ذى بال، فتمضى الحكومات بعدها لأمرها الذى تريد لا يكدر عملها كدر.

فليس ما يخشاه الكبار أن يجتمع الناس ويريقوا وقود غضبهم، إنما أخشى شىء يخشونه أن يحفظ الناس وقود غضبهم فلا يهدرونه، بل يضعونه موضعه من محرك العزم والعمل والسعى، ثم ينطلقون فيبلغون وجهتهم ومقصدهم الذى أرادوا.

وإليك أمثالًا قائمة نراها كل يوم على ذلك، فكم قد أبصرنا وشهدنا تظاهرات فى البلاد الغربية وغير الغربية مناصرة لغزة، ومستنكرة لعدوان العدو، وملتمسة منع المدد والمعونة إليه، وهى كثيرة كثيرة، فهل نصر ذلك غزة، أو رد عدوًّا، أو منع عنه معونة كانت تأتيه؟! كلا، لتقل أنت ما شئت من القول، ولتهتف بما شئت من الهتاف، فإن لك حق التظاهر والتصايح، وللحكومات أن تعطيك الإذن والمكان وتراقبك، ثم تفعل بعدها ما شاءت! ولفد فطن اليهود إلى ذلك فلست تجدهم يعمدون إلى الإكثار من التظاهر لعرض حججهم للناس، بل كانوا أقل تظاهرًا فى بلاد العالم، لكنهم كانوا أمضى عزمًا، وأنفذ فعلًا، وأعلى كلمة عند الكبار، كما كان هذا هو دأبهم من قبل أن تقوم لهم دولة، فقد علموا أن غضبهم ومظلمتهم إن هم هتفوا بها فى مظاهرة ثم طرحوها على قارعة الطريق، لم يُجِب شكايتهم أحد، ولم تقم لهم دولة، فتيقنوا أن السبيل ليس التظاهر، بل النفوذ إلى القصور، وبيوت الأموال، وبطانة الكبار، وحُسن الاستعداد، فملكوا ذلك، ثم أقاموا دولتهم، وتركوا لغيرهم حق التظاهر.

ولنا هاهنا مثال لغضبة مسددة غير طائشة ولا مهدرة قد أحسن جمهور أمتنا الاستعانة بها بعد طوفان الأقصى، ألا وهى (المقاطعة)، فإن قومنا قد غضبوا ولحسن الحظ لم يجدوا تظاهرات يفرغون فى ميادينها غضبتهم، فوجهوا هذا الغضب إلى مقاطعة بضائع العدو وشركاته، فكان هذا الجنيه المقتطع من العدو ومؤيديه أنكى وآلَم عليه من سبعين مظاهرة وهتافًا، فانظر حين أحسنَّا تسديد الغضب إلى موضع الهدف من العدو، استطعنا نكبته فى ماله، وأغلقت له أفرع، وتبرأت منه أخرى، فهكذا يكون الغضب الموفق غير المهدر.

وهذا مثل آخر أسوقه إليك من وقائع الربيع العربى فى ٢٠١١م وما تلاها، وأبدأ بسؤال لقارئى الكريم: هل كنت تظن أن حاكمًا سقط بهتاف هاتف أو صياح صائح؟! كلا، إن غضبات الجمهور هذه ربما تقلع حجرًا، أو تهدم سورًا، أو تثير شغبًا، لكنها لا تعزل حاكمًا، ولا تُسقط دولة، أما من عزلهم واستبدل بهم وأدال دولتهم فقد كانوا من غير هؤلاء الهاتفين الغاضبين، بل كانوا جيوشًا وعصائب تعلم مطالبها ومطالب مستخدميها، واستعدت لتلك الساعة، وبادرت بالعمل المؤتلف، وتركت الغضب المُراق على الطرقات للمتظاهرين، للغاضبين!

إن الغضب لهموم الأمة أمر حسن محمود، إذا أحسنَّا استعماله وقودًا يبعث على التدبير والاستعداد والعمل، ويحث على الانبعاث لمعالى الأمور وبلوغ الغايات والمطالب، أما إذا أفرغناه فى تظاهرة وصياح، فقد أرقنا ثمينًا غاليًا فى غير محله، فإن التظاهرات إن صلحت لشىء فإنما تصلح أن تكون بادئة تستفز الأمة للعمل، أو تكون محفلًا جامعًا للناس فى المهمات والملمات، لينبعثوا جادين مشمرين للأمر، أو أن تكون التظاهرة تخويفًا وردعًا للعدو إذا أبصر الملايين تناوِئه، أما أن تكون التظاهرة وحدها هى الفعل والعمل فذلك هو الخسران المبين.
---------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

الغضب المسفوح