12 - 06 - 2025

محمد السيد إسماعيل.. انحياز شجاع للتجديد إبداعًا ونقدًا

محمد السيد إسماعيل.. انحياز شجاع للتجديد إبداعًا ونقدًا

بالإضافة إلى أنه أحد أبرز شعراء قصيدة النثر في مصر، فإن محمد السيد إسماعيل (1962 – 2025)، كان من أهم نقاد الشعر عموماً، على المستوى العربي، في السنوات الأخيرة. وهو في نقده الأدبي عموما ينطلق من أساس أكاديمي، بما أنه حاصل على الدكتوراه في الأدب الحديث من كلية دار العلوم، جامعة القاهرة. ومن كتبه في دراسة الشعر ونقده: "رؤية التشكيل: قراءات تطبيقية في القصيدة الحديثة"، و"الحداثة الشعرية في مصر"، و"شعرية شوقي: قراءة في جدل المحافظة والتجديد". وله كذلك في كتب في نقد القصة والرواية، منها: "بناء المكان في القصة العربية القصيرة"، و"القصة النسائية في مصر"،  و"الرواية والسلطة". ومن دواوينه: "كائنات في انتظار البعث"، "ماء صاعد بالحلم"، "استشراف إقامة ماضية"، "تدريبات يومية"، "الكلام الذي يقترب"، "يد بيضاء في آخر الوقت"، "أكثر من متاهة لكائن وحيد". وله نصوص مسرحية جمعها في كتاب عنوانه "الرقصة الأخيرة" صدر العام الماضي عن دار "أروقة". وأظن أنه خلال العام الماضي والشهور المنقضية من العام الحالي، أصدر ما لا يقل عن خمسة كتب في مجالات مختلفة، وهو معدل غير مسبوق في حياته، وكأنما كان يستشعر دنو الأجل بحكم التدهور المتنامي لحالته الصحية بسبب إصابته بتليف الكبد. ورغم تلك الحالة الصحية، إلا أن محمد السيد إسماعيل كان يتصرف وكأنه في تمام عافيته، ولم تتأثر بذلك محبته الغامرة للحياة وللناس، فكان يعمل بدأب شديد، زادت وتيرته بعدما تخلص من أعباء الوظيفة الحكومية ببلوغه الستين من عمره. وكنا على موعد الأسبوع الماضي لنشارك سويا في ندوة بحزب التجمع، لكنه قبل الموعد بساعة واحدة، هاتفني معتذرا عن عدم استطاعته الحضور إلى مقر الندوة لظرف صحي طارئ. ظننته ظرفا عابرا سيعود بعده محمد السيد إسماعيل إلى نقد الأدب وإبداع الشعر، وإلى أحاديثنا الهاتفية اليومية التي كنا نتبادل خلالها الضحك بعد حديث جدي مقتضب عن مشاريع تخص الكتابة والندوات التي نحتفي من خلالها بالمبدعين في شتى مجالات الأدب والنقد والفكر في منتدى الشعر المصري. هذا المنتدى الذي يعتبر محمد السيد إسماعيل آخر حلقة من مؤسسيه الذين رحلوا تباعا خلال السنوات الخمس الأخيرة، من شاكر عبد الحميد إلى فتحي عبد الله ومحمود نسيم وإيهاب خليفة، ثم محمود قرني.

الانحياز للتجديد    

محمد السيد إسماعيل كان في انحياز دائم للتجديد، في الإبداع وفي النقد، على حد سواء. وهو ظل حتى أزمته الصحية التي لم تمهله سوى أيام قليلة، يكتب الشعر، وقصائده الأخيرة جاءت تحت وطأة ألم نبيل تجاه ما يحدث في غزة، وكان ينشرها على الفيسبوك، ولم يمهله القدر لجمعها في كتاب. 

قبيل رحيله، بشهور قليلة، أصدر ديوانه "أكثر من متاهة لكائن وحيد" (دار الأدهم) كما أصدر كتابين في نقد الشعر، هما "انفتاح النص الشعري: الواقع، الأيديولوجيا، النص" (الهيئة العامة لقصور الثقافة)، و"حداثة النص الشعري: الوعي النظري والاستجابة الجمالية" (دار النابغة). في الكتاب الأول انطلق من تصوره الخاص للمنهج الملائم لتحليل النصوص الأدبية، عموما والشعر بصفة خاصة. فقد لاحظ أن "علم تحليل الخطاب، الذي يعتبر الوارث الأخير للنظرية البلاغية العربية والنظرية الأسلوبية الغربية الحديثة، يقوم بالإجابة على كل ما يتعلق بالخطاب، سواء كان أدبيا أو غير أدبي؛ بدءا من قائله وانتهاء بأيديولوجيته، مرورا بزمنه ومكانه ومحتواه وغايته وكيفية بنائه. ولكن رغم شموليته وقيمة ما يصل إليه من تحليله للنصوص الأدبية، فإنه يقع في مأزق المناهج الخارجية حين يساوي بين الأدب وغيره من الخطابات المغايرة". وعلى هذا، فقد حدد إسماعيل ملامح المنهج الذي يراه مجديا في تحليل النص الأدبي، بحيث يتماهى مع تحليل الخطاب لكنه يختلف عنه في عدم وقوفه عند مبدع النص إيماناً باستقلالية النص النسبية عن صاحبه. يقترب هذا المنهج – بحسب إسماعيل - من البنيوية التوليدية، خصوصاً في خطواته الإجرائية التي تبدأ من النص، وصولاً إلى الرؤية التي يقدمها صاحبه. ومن هذا المنطلق، كان محمد السيد إسماعيل أحد أبرز نقاد القصيدة الجديدة، بعدما لاحظ أنها تسعى إلى صناعة جماليات مختلفة، رافضة الشكل الثابت، والتشكيل النهائي، "لأن المتشكل المحدد سرعان ما يتحول إلى طقس، والطقس تجسيد اسمي للسلطة، سياسية كانت أو دينية أو اجتماعية". 

القصيدة الثورية 

ولا شك – يقول محمد السيد إسماعيل – أن رفض قصيدة الحداثة وما بعدها للتشكيل النهائي يعد استجابة جمالية ضدية لمبدأ التشكيلات السلطوية المستقرة، ما أتاح التجديد في أبنية القصيدة وأشكالها، التي تبدأ بالانفتاح على الأجناس الأدبية والفنية، وانقسام القصيدة على نفسها فيما يعرف بالمتن والهامش، كما ظهر في العديد من قصائد أدونيس وسعدي يوسف على سبيل المثال. وكذلك تأليف أعمال شعرية مشتركة، كما ظهر في تجربة محمود درويش وسميح القاسم، وهي تجربة مسبوقة على مستوى السرد في "أحلام شهرزاد" لطه حسين وتوفيق الحكيم. وليس انتهاء – كما يقول إسماعيل – بالنص التشعبي / الروائي خاصة، والقصيدة التكنولوجية، وهو نص (الروائي والشعري) تخلص تماما من الوصاية الأبوية بمختلف مستوياتها. ولنا أن نقارن هذا بما فعله ثوار يناير من استخدام وسائط الاتصال الحديثة، ولنا أيضا أن نقارن بين هؤلاء المبدعين الثوار من ناحية، ورموز السلطة في استخدامهم لوسائل القمع التقليدية. إن الحرية التي تعد شرط وجود القصيدة الجديدة هي في حقيقتها حرية فادحة؛ لأنها تتطلب دائما ذلك الجدل الصعب بين التحرر من الشروط المسبقة والمواصفات الجاهزة، والالتزام في الوقت نفسه بأدبية الأدب أو شعرية القصيدة، من خلال صناعة شروط جديدة يبتكرها النص الإبداعي نفسه. وهو في هذا الكتاب تناول الشعر والوعي الثوري: قراءة في القصيدة المقاومة"، ثم "الشعر والثورة: قراءة في أشعار ثورة 1936 الفلسطينية"،  و"من واقع الحصار إلى شعرية المقاومة: قراءة في القصيدتين العراقية والفلسطينية"، و"شعرية التمرد: قراءة تطبيقية في القصيدة العربية الحديثة"، وقصيدة المقاومة في واقع مأزوم: قراءة في ديوان (ملك أتلانتس وسربيات أخرى) لسميح قاسم"، واختتم بمحور "الشعر والثورة: قراءة في ديوان (25 ميدان التحرير) لعبد العزيز موافي". 

شجاعة النقد

وفي كتابه "حداثة النص الشعري: الوعي النظري والاستجابة الجمالية"، خصص فصلا لموضوع موسيقى القصيدة الحداثية، وهو موضوع إشكالي، عبر إسماعيل عن رأيه النقدي فيه بشجاعة، معتبرا أنه ينطوي على تمرد له ما يبرره، على أكثر من صعيد، في ضوء تطور الوعي واختلاف الذائقة واختلاف إيقاع الحياة ذاتها في وقتنا الراهن، مقارنة بما كان عليه الحال فيما قبل العصر الحديث. وفي هذا يقول: "لا يغيب على أحد ملاحظة مدى التطور الذي طرأ على الواقع العربي – بل على العالم كله – في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، فقد تطور الواقع، في هذه السنوات القليلة تطورا سريعا ومتلاحقا على كافة المستويات، سياسيا واجتماعيا وفكريا بشكل لم يحققه على مدار سنوات طويلة ماضية. ومن ثم كان من الطبيعي أن تتطور لغة الشعر الذي هو نبض العصر وأصدق ما يعبر عنه. ويضيف أن الدعوة إلى ضرورة الربط بين لغة الشعر وبين حياة الناس ليست بدعة، بل هي أمر تحقق في كل العصور بدءا من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، دون أن يكون في ذلك أي غرابة. وهنا لا بد من أن تتطور رؤية الشاعر، عبر التخلص من القيم الفنية المتخلفة التي لم تعد تناسب العصر. وهنا يقدم إسماعيل الشاعر صلاح عبد الصبور باعتباره نموذجا لمثل هذا الشاعر، فقد كان يرى أنه "لا بد أن يكون للشاعر صوته الخاص واستعماله الخاص للغة؛ لأن اللغة ملك كل الناس، ولكن ليس كل امتلاك بالضرورة هو إعادة تنظيم، فالشاعر يمتلك اللغة كما يمتلكها الناس، ولكنه يعيد تنظيمها بحيث تخرج في أنساق أو سياقات يتوافر فيها الجمال والقدرة على الوضوح والإبانة".

فقد اعتبر أن من الغريب أن يتصور بعض النقاد البحور الشعرية وكأنها أدراج يجب على الشاعر أن يملأها، حتى وإن اضطر إلى الحشو في البحور الطويلة والإيجاز في البحور القصيرة. ورأى أن هذا التصور يحتوي على الكثير من التبسيط المخل بقيمة الموسيقى وبقيمة الشعر ذاته ويتنافى مع التصور الحديث للشعر، الذي ينظر إلى عناصر الشعر المختلفة أنها كل متجانس لا انفصام بينها، وأنها كلها تتداخل بدرجة يصعب الفصل بينها إلا بغرض الدراسة النقدية. وهنا يؤكد أن مفهوم الشعر تغير وتغيرت وسائله الفنية، فلم يعد للموسيقى الصدارة حيث قدم الشاعر المعاصر عليها كثيرا من العناصر الفنية الأخرى كالصورة وما استعاره من الفنون الأخرى كالحوار ورسم الشخصيات والمونتاج السنمائي وعنصر القص. ذلك الشاعر لم يشأ أن يقع في أسر قالب موسيقي لم يشارك هو في صنعه، بل أراد أن يجعل من موسيقى قصيدته صدى لحالته النفسية، أي تصبح القصيدة وموسيقاها "توقيعات نفسية تنفذ إلى صميم المتلقي لتهز أعماقه في هدوء ورفق" بتعبير عز الدين إسماعيل في كتابه "الشعر العربي المعاصر".  وتطرق إلى شعر أمل دنقل باعتباره نموذجا ناصعا للتمرد في الشعرية العربية الحديثة، في بعده السياسي، متناولا عددا من قصائده ومنها "كلمات سبارتكوس الأخيرة"، وإلى قصيدة محمد إبراهيم أبو سنة "لا". أما البعد الاجتماعي، فقد بدا غير منفصل عن البعد السياسي، بحسب قصائد أخرى لكل من أمل دنقل ومحمد إبراهيم أبوسنة، وهما على أية حال يعتبران مثلين لما كان عليه شعراء تيار التفعيلة في مصر وغيرها من البلاد العربية في الخمسينيات والستينيات، من التزام واهتمام بالقضايا السياسية والاجتماعية، على حد سواء.  

رحم الله الصديق الغالي محمد السيد إسماعيل.
----------------------
بقلم: علي عطا 

مقالات اخرى للكاتب

محمد السيد إسماعيل.. انحياز شجاع للتجديد إبداعًا ونقدًا