18 - 05 - 2025

متى تضرب مصر إسرائيل؟

متى تضرب مصر إسرائيل؟

تناولت في مقالات كثيرة، بعض أمثلة للمخاطر التي قد تهدد الأمن القومي المصري، بما في ذلك: احتمالات قيام مصر بعمل عسكري شامل ضد الكيان الصهيوني.

وقد توصلت بشكل عام إلى استنتاج استحالة تبرير ذلك من زاوية القانون الدولي، إلا بشروط معينة. وفي هذا المقال سأحاول البحث في سيناريو أقل من حرب شاملة، وأكثر من مجرد اشتباكات محدودة، وأعني بذلك البحث في إمكانية قيام مصر بتوجيه ضربات إجهاضية محدودة، ضد بعض القوات الصهيونية التي تحتشد الآن على حدودنا في المنطقة د (بالمخالفة لاتفاقية السلام بين البلدين).

ولا شك أن هذا قرار خطير، ولا يمكن الإقدام عليه إلا بعد تفكير وتدبير، مع إنذار العدو بحقيقة وتفاصيل انتهاكاته، ومطالبته بسحب قواته، مع تمهيد دبلوماسي واسع، بما في ذلك: مخاطبة مجلس الأمن لاتخاذ قرار يلزم العدو باحترام تعهداته.

فإذا تبين تعسف العدو، أو الكشف عن نواياه العدوانية التوسعية، أو ثبات محاولته دفع سكان غزة لاقتحام الحدود المصرية، فإن ذلك يمكن أن يعد في حد ذاته ذريعة كافية للدفاع عن النفس أو cause belli.

وسوف أحاول فيما يلي كشف بعض الجوانب القانونية الهامة للموضوع، خاصة بعد تصاعد أصوات عديدة تطالب الحكومة بعمل عسكري مصري ضد الكيان الصهيوني.

أولًا: التدخل العسكري المصري لحماية السكان في غزة، من عمليات الإبادة التي يستنكرها العالم كله، وهذا التدخل يجد أساسًا قانونيًّا في قواعد القانون الدولي الإنساني، فقد برز مؤخرًا إلى الوجود مولود دولي جديد هو "مبدأ المسؤولية في الحماية "Responsibility to Protect" التي اختصرت في R2P، وهو يؤكد أن سيادة الدولة تتحقق مع التزام الدولة بحماية شعبها، وإذا كانت الدولة غير راغبة أو غير قادرة على القيام بذلك، فإن المسؤولية تنتقل إلى المجتمع الدولي، الذي يستخدم وسائل دبلوماسية وإنسانية لحمايتهم، وإذا لم تكن الوسائل السلمية كافية، فإن مجلس الأمن يمكن أن يفوض استخدام القوة وفقًا للفصل السابع من الميثاق كحل أخير.

وحيث أن الشعب الفلسطيني يعتبر بمثابة "شعب" يخضع لسلطة الاحتلال، التي أثبتت أنها غير راغبة أو غير قادرة على توفير الحماية اللازمة له، فإن التطبيق الواسع لمفهوم "المسؤولية في الحماية" يثبت في هذه الحالة، رغم اختلاف الوصف الأصلي mutatis mutandis.

إلا أن تطبيق هذه القاعدة يتطلب تفعيلًا عن طريق مجلس الأمن، وهو ما لا يتصور تحققه في ظل وجود الفيتو الأمريكي، ولكن ذلك قد يثير تفكيرًا خلاقًا يستند إلى أن المنظمات الإقليمية تتولى عبء صيانة الأمن والسلم الدولي، في إطار مناطق نفوذها، بما يعني أنه يمكن بتفسير واسع أن تصدر جامعة الدول العربية قرارًا بتكليف بعض الدول العربية بالتدخل لحماية الشعب الفلسطيني، وفقًا لمبدأ "المسؤولية في الحماية"، أو مطالبة محكمة العدل الدولية بإقرار هذا الحق.

ثانيًا: الضربات الإجهاضية Pre-emptive Strikes تعني باختصار "عدم انتظار العدو، وإنما الذهاب إليه"، ويذهب بعض الفقهاء إلى أن القانون الدولي قد اعترف منذ زمن بعيد، بحق الدفاع أمام "الخطر المحتمل" (Imminent danger)، ويمكن على ضوء ذلك أن ترى مصر أن مفهوم "الخطر المحتمل" يجب تكييفه طبقًا لإمكانيات وأغراض الكيان الصهيوني، ليس فقط بناءً على سلوكه العدواني، وإنما ما تكشف عنه تصريحات بعض كبار مسؤوليه عن نوايا عدوانية، مثل: "إعادة احتلال سيناء"..

وذلك قد يعني باختصار تقديم تعريف جديد لما توافق عليه أغلب فقهاء القانون الدولي، الذين كانوا يعرفون "الخطر المحتمل" بأنه "ذلك الخطر الذي يبدو من تحرك عسكري واضح من الخصم، أي دبابات وأساطيل وتعبئة... إلخ؛ بهدف الاعتداء على أراضي إحدى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة".

وتجدر الإشارة إلى أن أمريكا قد استخدمت هذا النوع من الضربات ضد بعض الأهداف في اليمن، وفي العراق، كما استخدمته أيضًا في سوريا ضد جماعة داعش، سواء بحجة حماية الأقليات، أو مواجهة أخطار محتملة، وبشكل لا يدعمه أي نص حالي في القانون الدولي.

قد لا تكون هناك غضاضة في أن تتغير قواعد القانون الدولي لمواجهة ظواهر مستحدثة في النظام الدولي، فحين تزايدت ظاهرة اختطاف الطائرات المدنية، واحتجاز الرهائن، توصل المجتمع الدولي إلى اتفاقات منظمة لمواجهة هذه الظاهرة. وحين نشأت الحاجة إلى نظام قضائي لمواجهة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، توصل المجتمع الدولي عبر اتفاق روما إلى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك كان الحال مع قضايا البيئة والتنمية... إلخ.

الشاهد أن ذلك التطور كان يتم عبر وسيلتين من وسائل تعديل أو خلق القاعدة الجديدة؛ وهما: إما عرف دولي مستقر ومتواتر لمدة طويلة من الزمن، وإما عمل فقهي، سواء من خلال لجنة القانون الدولي، أو المؤتمرات الدبلوماسية، لإبرام اتفاقيات جديدة تنظم ظاهرة من الظواهر.

الجديد في هذا الموضوع هو صلاحيات دولة أو بعض دول، ليس فقط في خلق وتعديل القواعد القانونية، وإنما أيضًا بالتفسير والتنفيذ، ثم وبفرض أن تلك القواعد الجديدة قد صارت عالمية القبول، فهل يعني ذلك أنها عالمية التطبيق؟ بمعنى هل يجوز لأي دولة أن تشن الضربات الإجهاضية بناءً على تصور، أو افتراض، أو حتى حقيقة بأن هناك نية موجودة لدى دولة أخرى تشير إلى أنها قد تقوم بأعمال عدائية ضدها؟

ثم ما هو التعريف القانوني المحكم لما نطلق عليه اسم "الحرب الإجهاضية"؟ وما هي الأعمال العدائية التي تستوجب على الدولة تنفيذ ضربتها الإجهاضية لتوخيها؟ وكل هذه الأسئلة وغيرها أسئلة هامة وحيوية في المفهوم القانوني الصحيح، فحين حرم ميثاق الأمم المتحدة التهديد أو استخدام القوة في العلاقات الدولية، فإنه حدد بدقة الاستثناء على هذه القاعدة العامة.

ولذلك فإنه ولو كان من حق المجتمع الدولي إعادة النظر وصياغة وتعديل قواعد قانونية جديدة، فإن هذه القواعد يجب على الأقل أن تتسم بالحد الأدنى الذي يجب أن يتوافر في تلك القواعد، وإلا أصبح القانون هو اللا قانون.

نستخلص من ذلك أن القانون الدولي بوضعه القائم، قد لا يوفر الأساس الكافي لتنفيذ هذا النوع من الضربات العسكرية، مع التسليم في نفس الوقت بأن أمريكا وحلف الأطلنطي قد توسعوا في الخروج على هذا القانون، بما مثل تحديًا حقيقيًّا للفقه الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة. ورغم أن البعض يقلل من أهمية هذا القانون في العلاقات الدولية، إلا أن التاريخ يحدثنا بأن المآسي التي شهدتها البشرية، لم تكن فقط نتيجة لاختلال ميزان العدل، وإنما لاحتقار هذا الميزان، وعدم اعتباره في العلاقات بين المجتمعات والشعوب.

فعلى سبيل المثال الأقرب للأذهان: يكفي متابعة سلوك إسرائيل في المنطقة العربية، أو تصرفات الدول العظمى بشكل عام، فسوف نجد أن القانون الدولي في نسخته المعدلة عبارة عن قانون مخصخص، تخصخصه كل دولة على مزاجها، وتضع فيه من القواعد ما يتماشى فقط مع قدراتها ومصالحها، بغض النظر عن تناقض ذلك مع مصالح المجتمع الدولي، وهو يشبه وضع العالم قبل الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.

وبهذا المفهوم يمكن أن نحدد بدون أي جهد في التحليل، الدول التي يمكنها استخدام ما يسمى "الضربات الإجهاضية"، فهي تلك الدول التي لديها القوة الشاملة التي تتيح لها انتهاك القانون الدولي، دون أن تخشى أي عقاب، ولكنها في نفس الوقت تهدم النظام القانوني الدولي خروجًا على إجماع النظام الدولي بأكمله، وذلك لا يستدعي في مواجهته جهد فقهاء القانون الدولي فقط، وإنما بلورة إرادة سياسية دولية جماعية؛ لإنقاذ العالم قبل فوات الأوان. ولا أظن أن مصر ترغب أو تقدر على مخالفة هذا القانون، ولا أظن أن عاقلًا يمكنه أن يوصي بذلك.
---------------------------
بقلم: السفير/ معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

متى تضرب مصر إسرائيل؟