18 - 05 - 2025

كن جبانا ليسلم قفاك !

كن جبانا ليسلم قفاك !

انقطعتْ صلتُنا به بعد أن درّس لنا فصلا دراسيا كاملا بالصف الأول الإعدادي، فاتفقنا علي زيارته بقرية (دملو) إحدى قري مركز مدينة بنها عاصمة القليوبية.

لم يكن الخروج إلى مدينة بنها مألوفا لمن في تلك السن دون صحبة آبائهم، فانتهزتُ غياب أبي عن البيت، وأسرعتُ لإقناع أمي بخروجي مع أصدقائي لزيارة أستاذنا محمد فايد .

كان إقناعُ أمي شيئا شبه مستحيل، لكنها وافقت تحت ضغط الإلحاح وكثرة (الزّن)، الذي هو علي الأذن أشدُّ من السحر .

قبل خروجي نصحتني أمي بعدم المرور على كوبري القطار علي الرياح التوفيقي، والذي تسبب المرورُ فوقه في سقوط عديد من الضحايا دهمهم القطار.

كان هذا الكوبري عبارة عن (فلنكات) خشبية تتقاطع مع القضبان، بين كلّ لوحٍ خشبي وآخر فاصلٌ، يتسع لسقوط من يمر علي الكوبري بالرياح، إذا زلت قدمه، أو تعثرت خطواته.

خرجتُ بصحبة عدد من زملاء الفصل، فاحتضنتنا مدينة بنها بصخبها وضوضائها، وأسرع الجميعُ للمرور من فوق الكوبري؛ برهانا على الشجاعة، وعدم الخوف، دون أن تُفلح محاولاتُ إقناعهم بألا يفعلوا؛ احتراما لوعدي لأمي، فأصروا علي موقفهم، واستكبروا استكبارا، بل واتهموني بالجّبن، الذي رفضتُ أن أوصف به، أو يلصق هو  بي، مؤكدا أنه ليس جبنا، بل هو الوفاء بالوعد، ولكن هيهات هيهات أن يستجيبوا .

لم يحفل الرفاق لقولي، أو يعيروه اهتماما، وأوعز إليهم شيطانُهم بأن يلتفوا حولي، ويغمروني تقريعا وتوبيخا، وهم يرددون (الخوّاف أهو)، فقلتُ ولو، المهم احترامي لوعدي .

بحثت بينهم عمن يستمعُ لنصيحتي، ويقبل المرور معي من فوق الكوبري الخرساني الآمن، الذي يبعد أمتارا عن الكوبري المحظور، فوقعت عيني على (ر) .

كان (ر) قصير القامة، ضيق الخطوة، مرتفع البطن، أشبه في حركته بكرة تتدحرج، ومن ثم فإن اجتيازه للفلنكات يُعد أمرا مستحيلا، فناشدته ألا يستحيب لإغراءاتهم، فخذلني، وأصمّ أذنه عن استجدائى، ويبدو أنه كان قد ابتلع علي غير العادة (حَبة شجاعة)، فصمّم على المرور بصحبتهم، هنالك، وتحت ضغط تقريعهم اللاذع، اضطررتُ لاجتياز الكوبري معهم،  واستحضرتُ قول المعري:

أنا وإن كنتُ الأخير زمانه.. لآت بما لم تستطعه الأوائلُ .

فرفعتُ ذيل جلبابي في فمي، وانطلقتُ كعداء في ماراثون سمع صافرة الانطلاق.

كان الخوف من أن يُدركني القطار، يدفعني للقفز كغزالة، فرّت من قسورة جائع يتعقبها، فكنتُ أجتازُ في القفزة الواحدة قاطعين من الخشب أو ثلاثة، وعند وصولي لمنتصف الكوبري، سمعتُ خلفي صراخا، فعدوت أسرع، أشبه بسهم انطلق من الرمية؛ خشية أن يكون القطارُ ورائي.

وصلتُ إلي نهاية الكوبري بسلام، ووقفت أنظر إلي مصدر الصراخ، فإذا به ينبعث من (ر)، الذي نصحته بالأمس، فأبى إلا العناد، وبعدما، وصل إلي منتصف الكوبري (تسمرت) رجلاه، عندما شاهد ماء الرياح يجري من تحته .

وقف (ر )فترة كمشلول، لا يستطيع المشي، أو كمن لدغته عقرب، وسرى السمّ في أوصاله، فلم يقو على الحركة.

كان (ر)، كلما سمع صوت (سرينة) قطار، ظنّ أنه هالكٌ لا محالة، فيزداد صراخه، ويعلو نحيبه، وهو يردد: (يا داهيتي السودة يا انا يا امه) .

شاهد رجلٌ المنظر من بعيد، فأسرع لينقذه، ويبدو أنه لم يعتد هو الآخر المرور من فوق هذا الكوبري اللعين، فتملكه الخوف، وعبّر عنه بالتشفي في (ر)، فكان كلما اجتاز قاطعا يضربه علي قفاه صارخا: (طالما ما بتعرفش تتنيل أيه خلاك تعدي).  

آلم الضربّ (ر)، فاضطر إلى أن ينكمش مع كل خطوة، ويدخل قفاه في جلبابه، فكان مع كل خطوة أشبه بحلزون يأوي إلي قوقعته، أو كدودة قزّ تحتمي بشرنقتها .  

ألهب الضرب (ر)، فاستجار داعيا الله بأن يقل عددُ الفلنكات رحمة بقفاه، ولكن هيهات .

وبعد شِقّ الأنفس، وصل (ر) إلي نهاية الكوبري، وقد تورم قفاه، فاقتربت منه هامسا في أذنه: ألم يكن من الأجدى أن تكون جبانا ليسلم قفاك.

(من غواية السيرة الذاتية).
----------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام


مقالات اخرى للكاتب

كن جبانا ليسلم قفاك !