في الخطاب الافتتاحي الذي قدم دونالد ترامب نفسه به للناخبين الأمريكيين، من أمام برجه الشهير في نيويورك، يوم 15 يونيو 2015، وبعد أن تحدث عن ضعف السياسيين الأمريكيين وعجزهم عن حماية أمريكا، ذكر في صوت حزين: "أن الحلم الأمريكي يموت"، ولكنه في صوت حاسم قال: "ولكن إذا انتخبت رئيسًا فإنني سوف أعيد أمريكا لعظمتها مرة أخرى؛ بل أفضل وأقوى من أي مرحلة سابقة".
ولقد مس ذلك الخطاب وتلك الفقرة تحديدًا، وترًا لدى الناخب الأمريكي، وخاصة طبقته المتوسطة المحافظة، والتي تبدو مثل نظائرها في العالم كله طبقة "قابلة للاستبداد"، وامتدادها الرأسي يصل إلى طبقة الأرستقراطية الأمريكية من المحافظين الجدد، وهذه الكتلة البشرية المتأرجحة والتي تشبه "الجيلي" في اهتزازها وعدم ثباتها، تمثل في أغلبها الشعور الكامن بالخوف من "الآخر"، أيًّا كان هذا الآخر، سواء عرقيًّا، أو دينيًّا، أو اقتصاديًّا، أو اجتماعيًّا، فهناك خوف أصيل من أي تغيير يهدد مكاسبها الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو الثقافية. وهذه الطبقة في الغالب يمثلها "الأبيض" البروستانتي الذي يعيش في قلب المدن الأمريكية، ولا يفضل الاندماج إلا مع بشر يتماثل معهم بشكل أو بآخر في العرق، والثروة، والمكانة الاجتماعية.
وهذه الكتلة البشرية الخائفة من أي تغيير ومن الآخر، لديها استعداد دائم للاختباء بهذه المخاوف خلف قائد قوي، يعكس خطابه ما يعجزون هم إنسانيًّا وأخلاقيًّا عن التعبير عنه، فهؤلاء هم وقود الاستبداد الجاهز في أي مجتمع لخلق الديكتاتور، حيث يقودهم كالعميان في معركة لا تنتهي بين الخير والشر؛ لأنهم لا يرون العالم إلا منقسمًا بين أشرار وأخيار، سود وبيض.. وهم دائمًا في جانب الخير والعدل والرفاهة التي يطمع فيها الآخر.
ويجب ملاحظة أن هذه الكتلة البشرية رغم خصائصها المشتركة، تتباين في درجة وضوح هذه الخصائص، وهو ما حاولت وصفه بأنه "الجيلي" المهتز، فسوف تجد في أي مرحلة تاريخية جزءًا من هذا الجيلي يميل يمينًا، بينما جزء آخر يميل ميلًا هينًا إلى اليسار، وذلك يفسر أنها ليست ظاهرة سائدة ومسيطرة طول الوقت، وإنما تبرز ويشتد عودها في أوقات التراجع الاقتصادي أو الخوف، وفي هذه الحالات ينجح في الانتخابات شخصيات ما كان لها أن تنجح في أي ظروف أخرى، مثل: رونالد ريجان، وجورج بوش الابن، بل وجيمي كارتر الديمقراطي، وهي فترات يمكن بالرجوع إلى ظروفها الموضوعية، أن نكتشف عوامل مشتركة دفعت تلك الكتلة المذبذبة لنمط تصويتي معين.
والقابلية للاستبداد سمة لا يعترف بها القابع فيها، بل وعلى العكس، سوف نجد أن هؤلاء الذين يختبئون بخوفهم، وربما بدناءتهم الإنسانية، وطمعهم خلف قائد مستبد، يبررون ذلك بمختلف الحجج الأخلاقية والسياسية، التي تصل إلى حد ادعاء "البيوريتانية السياسية"، أو ما يمكن أن نطلق عليه "النقاء السياسي"، فهم يعتلون أعلى أشجار الأخلاق والمبادئ، والمحتكرون لأعلام الوطنية والدفاع عن الهوية القومية... إلخ. ويخرج "الزعيم" المنشود من بين هذه الكوابيس اليوتوبية كي يردد نفس الحجج، ويحارب طواحين الهواء لأشرار حقيقيين أو مختلقين، ويرفض هذا الوضع الاستبدادي اللا أخلاقي أن يفهم أن ما يطلقون عليه "الاستقامة السياسية" لا يزيد عن كونه انحرافًا سياسيًّا لتحقيق أهداف السيطرة الكاملة على المجتمع، تحت ظلال نظام ديكتاتوري.
وتظل هذه الأفكار المريضة طالما استمرت الظروف التي خلقتها، وبدون دخول في التفاصيل، فإن ظهور أدولف هتلر وصعوده في ألمانيا، وموسيليني في إيطاليا، وبينوتشيه في تشيلي... إلخ، هو تطبيق فعلي لما نزعمه في هذا المقال، فلا يمكن للذاكرة الإنسانية أن تنسى الملايين الذين كانوا يهتفون ويصرخون بأسماء هؤلاء الطغاة، إلى درجة أنه عندما تأتي لحظة النهاية الحتمية، يقف الطاغية مذهولًا عاجزًا عن الفهم.. لماذا انقلب الناس عليه؟ وربما همس أو صرخ مثل القذافي: "من أنتم؟".
إن الطاغية المستبد مثل ملك الشطرنج، لا يموت وينتهي الدور طالما ظلت هناك له فرصة للحركة، حتى ولو اقتصر الأمر على خانة أو خانتين، وعندما تنغلق أمامه كل فرص الحركة فإنه يموت، وينتهي الدور.
لا جدال أن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، يقترب إلى حد كبير من الصورة السابقة. والخطورة هنا أنه يمتلك بين أصابعه أزرار الترسانة النووية الأمريكية، ويفتقد إلى حد كبير الخبرة السياسية، ومهارة التفاوض اللازمة لإدارة الأزمات الدولية، ويزيد المشكلة تعقيدًا أنه لا يعترف بذلك، بل ويظن أنه الزعيم الذي انتظرته الأمة الأمريكية طويلًا، ومصيبته ومصيبة العالم وأمريكا معه، أن تلك الكتلة البشرية الجيلاتينية التي دفعت به إلي البيت الأبيض، تصدق أنه الرجل القوي الكاوبوي الذي سيخلصهم من المهاجرين الذين يقتسمون رزقهم، ويشوهون وجه أمريكا.. إنهم ينتظرون منه أن يجعل أمريكا قد الدنيا.. إلا أن دروس التاريخ تعلمنا أن تلك هي بداية النهاية لأي امبراطورية.. وأظن أن أمريكا مع ترامب سوف تبدأ رحلة الانزلاق التاريخي، في حين تشرق شمس الشرق مرة أخرى ربما؛ كي تنقذ العالم من ظلام كارثة نووية.
-------------------------
بقلم السفير: معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية الأسبق