تشكل الأحداث الكبرى مجرى التاريخ وتصنع أمجاد الأمم والشعوب. في العهد الإسلامي الأول خرجت الجيوش من الجزيرة العربية (مركز الثقل الاستراتيجي آنذاك) لتهزم الفرس والروم في معركتي القادسية واليرموك، وتسقط الامبراطورية الفارسية والامبراطورية البيزنطية. وإبان العهد الأموي أصبحت دمشق عاصمة الأمويين مركزاً سياسياً واقتصادياً قوياً يتحكم في بوصلة توجيه جيوش الفتوحات لضم مناطق شاسعة من الدول المجاورة إلى الامبراطورية الوليدة. ثم انتقلت السلطة إلى بغداد حاضرة الخلافة في العهد العباسي الذي شهد ذروة الفتوحات والمد الإسلامي. أثناء الحروب الصليبية والغزو المغولي للعالم العربي كانت مصر في صدارة المشهد السياسي حيث انطلق جيش صلاح الدين ليحرر القدس من الصليبيين وزحفت قوات قُطز وبيبرس لدحر المغول في معركة عين جالوت.
وفي سياق الحرب الباردة كانت بعض الدول العربية خاصة دول الطوق أو ما يسمى بدول الممانعة في الخطوط الأولى من المواجهة مع التهديدات الخارجية. لكن زيارة دونالد ترامب الحالية لمنطقة الخليج العربي شئنا أم أبينا تشي بانتقال مركز الثقل الاستراتيجي والجيوسياسي إلى الإمارات والسعودية وقطر.
تختلف هذه الزيارة عن رحلة ترامب السابقة للمنطقة في عام ٢٠١٧ والتي كانت لأهداف مالية وتجارية بحتة. هذه المرة تشارك دول الخليج الثلاث في صنع التاريخ على كافة المستويات: السياسية والاقتصادية والتجارية، حيث من المقرر عقد اتفاقيات تعاون عسكري واقتصادي وتقني وصناعي واسع النطاق ومتعدد المجالات بين الامبراطورية الامريكية وهذه الدول.
أثناء الزيارة تم تغيير اسم الخليج الفارسي إلى الخليج العربي للمرة الأولى، وتم ترتيب لقاء بين ترامب والرئيس السوري الذي يسير حالياً على خطى أردوغان ويتبع نفس السياسات البرجماتية الزئبقية والذي كان مطلوباً على لائحة الإرهاب إبان حكومة ترامب الأولى في عام ٢٠١٧، مما يؤكد أن القرارات المصيرية أصبحت تتخذ الآن في منطقة الخليج وليس في أروقة البيت الأبيض أو المكتب البيضاوي، والمثير في الأمر أن ترامب قد أبدى إعجابه بأحمد الشرع الشاب الوسيم حسب قوله، مثلما أبدى إعجابه بالرخام القطري.
وبغض النظر عن تعليقات ترامب الجانبية ومجاملاته البروتوكولية ومحاولاته بأن يبدو مرحاً وخفيف الظل، فثمة اتفاقيات عن التعاون في مجالات شتى بين أمريكا والإمارات ومن بينها (تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي) لتصبح الأخيرة أهم مركز في العالم لتصنيع وتطوير وتسويق هذه التقنيات إبان القرن الحادي والعشرين. ومن المنتظر اتخاذ قرارات هامة بخصوص الحرب في غزة وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني وإدخال المساعدات الإنسانية وعودة المختطفين والأسرى، رغم تعنت الأوليغاركية السياسية التي تحكم الكيان.
لقد جاء ترامب إلى منطقة الخليج العربي في أول زيارة له خارج أمريكا لإنشاء ناتو عربي خليجي على غرار حلف الناتو القديم، ولكن جاء الرئيس الذي يؤمن بالصفقات أساساً لحاجة الإدارة الأمريكية للتعاون مع دول هذه المنطقة اقتصادياً وسياسيًا، في وقت يتعرض فيه الاقتصاد الأمريكي لمنافسة شرسة مع التنين الصيني وفي وقت تراكمت فيه الديون الأمريكية لتبلغ أكثر من 36 تريليون دولار في عام 2025، بحيث أصبح نصيب كل مواطن أمريكي من الديون ما يعادل 167 ألف دولار حسب مكتب الميزانية التابع للكونجرس.
من ناحية أخرى يجب التأكيد على أن أهم دولة في التاريخ المعاصر، والتي يمتد نفوذها العسكري والسياسي في جميع القارات، ولا يخلو محيط أو بحر أو ممر مائي من بوارجها وأساطيلها وغواصاتها وتدور أقمارها الصناعية ومحطاتها الفضائية حول الغلاف الجوي للكرة الأرضية - هذه الدولة العظمى تأتي لمنطقة الخليج العربي ليس بهدف الابتزاز المالي، ولكن لإبرام اتفاقيات تعاون مشترك في كافة المجالات مع دول المنطقة، وفي هذه اللحظة التاريخية الفارقة تشكل منطقة الخليج العربي محوراً مركزياً يمثل الثقل الجيوسياسي والاستراتيجي في الشرق الأوسط والعالم العربي، مما يبشر بحلول عهد جديد من الرخاء الاقتصادي لشعوب المنطقة.
--------------------
بقلم: د. صديق جوهر
أكاديمي وناقد ومترجم