نعيش على أطلال خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز .. الرجل الصالح الذي ملأ الأرض عدلا خلال عامين .. ولم يتمكن خازن بيت المال من إغلاق بابه من كم أكياس الأموال التي اكتظ بها المكان، ولم يعد ثمة فقير أو محتاج يجوب الشوارع ويطلب السؤال.. ثم مات الحاكم الزاهد بتقواه وعطائه وثوبه الخشن الناصع مسموما بغدر الطمع في السلطة واستعباد كرسي الخلافة.. ولقرون طويلة صرنا نسرد سيرته العطرة ونستنشق عبير أفعاله وبصماته في البناء وتعمير الكون والتسامح مع الأعداء وترويض الحلفاء.. ونبكي ألما وكمدا على حال أمة فقدت بصرها .. وضلت بوصلتها!.
فهل يمكن أن تعبر روح "الفتى العمري" المحيطات والبحار لتلقي بظلالها وأوراق شجرتها المثمرة على تربة أمريكا اللاتينية؟!.. لقد تجسدت الروح في ملامح عصرية حملت اسم خوسيه موخيكا .. معبود الجماهير وتميمة الأحرار في أوروجواي، ولكن الحظ حالفه أكثر ليحكم البلاد 5 سنوات منذ 2010 وحتى 2015 .. ومنذ أول لحظة وهو على رأس أكبر سلطة سياسية، يخطف القلوب ويأسر الخواطر بقرارات شجاعة وسلوك مستقيم ورغبة صادقة وصارمة في الإصلاح والتغيير لصالح الشعب وليس الحاشية أو الذات!.
رفيق النمل في الزنزانة واجه أكبر التحديات وغازل أعظم أحلام فقرائه ومواطنيه الكادحين .. وكان يوم خروجه من المعتقل أغلى وأثمن من تاريخ إعلان توليه الرئاسة، فقرر أن تكون الحرية دستور عمل ونضال .. وخلال فترة حكمه، نما اقتصاد أوروجواي بمعدل سنوي متوسط بلغ 5.4%، وانخفضت معدلات الفقر، وظلت البطالة محدودة، فضلا عن أن الدولة اللاتينية النامية لفتت أنظار العالم بالقوانين الاجتماعية التي أقرها البرلمان خلال تلك السنوات وأبرزها تنظيم الدولة لسوق الماريجوانا .. وعلى مدار رحلة الإنجاز الهادئ بقي موخيكا مع زوجته وشريكة كفاحه السياسي في منزلهما المتواضع على مشارف مونتيفيديو، دون مساعدة منزلية .. بلا حماية أمنية كافية .. لايرتدي الملابس الرسمية ويقود بالبنطلون الجينز والقميص الفاتح سيارته "فولكس فاجن بيتل" الزرقاء موديل 1987 .. بل ويبادر بالتبرع بجزء كبير من راتبه، ليفوز بلقب «أفقر رئيس في العالم»!.
- لقد بكى ملايين الناس في أوروجواي "الثائر الحق" الذي سكت عن الكلام المباح، وودعوه بدموع الحب والتقديس .. ونحن هنا نقرأ الفاتحة على عصر "الحاكم العادل"!!.
-------------------------------
بقلم: شريف سمير
* نائب رئيس تحرير الأهرام