- التاريخ ليس فقط فيما يكتبه المؤرخون، بل أيضا في المأثورات الشعبية والأدب والسينما والصحافة والمباني وأسماء الشوارع وحتى الإعلانات التجارية
- الأدب الشعبي يتسم بمصداقية كبيرة عند كتابة التاريخ فأغنيات السبوع مثلا تعكس طبيعة النظرة الدونية لإنجاب الأنثى
- المباني وحالة المعمار تعكس الحالة الاقتصادية والسياسية في كل عصر من العصور وتعكس التوجهات الثقافية والاقتصادية أيضا
- "كل من عليها فان" في مقابر اليهود بالبساتين تؤكد حالة التعايش بين المصريين على اختلاف دياناتهم
- "التصوف الشعبي" تشارك فيه المصريون مسلمين ومسيحيين ويهود، وهو ما جعلني أؤكد فكرة الاستمرارية في الشخصية المصرية
- بعض السير الذاتية اتسمت بالخوض في الأعراض وتجريح الآخرين كمذكرات محمد فريد والانتقادات اللاذعة لهم كمذكرات عبد الرحمن بدوي
- الأدب بوتقة تحمل الكثير من أشكال التوثيق التاريخي حتى لو لم يكن ذلك مقصودا من جانب الأديب
- قطعت شوطا في توثيق تاريخ اليهود المصريين وأعتقد أنني قدمت ما وجدته جديدا وسأكتفي بهذا القدر
- التاريخ ليس محمية المبدع وحده، بل محمية المجتمعات بأكملها؛ ففيه ما ينفي محاولات تشويه الهوية أو إعادة تشكيل الجغرافيا
مما لا شك فيه أن مسألة "النوستالجيا" الحنين, ليست هي الدافع الوحيد لاختيار الكاتبة "سهير عبد الحميد", والتي درست الإعلام بجامعة القاهرة قسم الإذاعة والتلفزيون في العام 1996, ولكنها تلك المناطق الأثيرة التي تعثرت بها الكاتبة المولودة في الاسكندرية، والتي كانت شاهدة على الكثير من مجد عاصمة البحر المتوسط "الكوزمو بوليتان" حيث امتزاج الحضارات ووجود الجاليات الأجنبية من الطلاينة والقبارصة والفرنسيين والكثير من جنسيات العالم, قديمه وحديثه، وفي هذا الإطار كانت تكمن الدوافع لاختلاف خارطة السرد فيما يخص الكاتبة، والتي قدمت حتي الآن أكثر من سبعة عناوين, على سبيل المثال وليس الحصر, منها "ناحوم أفندي" , "سيدة القصر", "سلسال الباشا", علي "عتبة المقام", وهنا تكمن المفارقة حيث اختيار الساردة, بحكمة وروية, مناطقها الشائكة فيما يخص جوهر التاريخ, وعلاقة الماضي بالحاضر, وتلك الصرعة التي جعلت من سهير عبدالحميد تمثل فارقا في السرد الروائي, حيث امتزج في إطارها الروائي بالملحمي والجمالي, لتثبت جداراتها في فتح خزائن الماضي فيما يخص الفترة الملكية ووجود الكثير من الجاليات اليهودية, وهو التي عملت عليه المبدعة.
في هذا الحوار, نستعرض تلك المواقف, والرؤي الخاصة بمخزون الذاكرة والطفولة عند سهير والتي نجحت في فتح الكثير من الملفات، فيما يخص علاقة مصر بمسلميها ويهوديها وتاريخها, وتحديدا فيما هو مطروح من كتابات متعددة, فهي ليست تؤبد الحنين ولا تقف عند ماضي الإرث المصري متعدد الهويات, بل ناطحت الكثير من معارضيها في تناولها للتاريخ من وجهه نظر "ليبرالية" لتؤكد علاقتها بالحرية المطلقة, للكاتب والمفكر والكاتب المعني بالتاريخ, ومن هنا كانت هناك محاولات, لـ "تنصيص" سهير عبد الحميد التي تنفي انتماءها للماضي, بل تحاول تصحيح التاريخ والحديث عن الكثير من المخفي والمسكوت عنه في الفترة الملكية في مصر أو ما قبل ثورة الضباط الأحرار 1952..
"سهير عبد الحميد" تجلت لديها لغات السرد وجمالياته, وتوافقه مع التاريخ, من أجل تحقيق رؤية أكثر إنصافا وحيادية, فيما يخص التاريخ "المعلن" والمحجوب ومحاكمة المسكوت عنه.
هذا حوار مع الكاتبة الروائية وأستاذة التاريخ سهير عبد الحميد، والتي تركت الإذاعة والتلفزيون والصحافة بسبب عشقها للتاريخ.
* سألتها بداية: تطرحين دومًا فكرة "التاريخ الموازي" كمصدر للكتابة التاريخية .. فما الذي تعنين به؟
- في يقيني أن التاريخ لا يوجد فقط في كتابات المؤرخين وشهادات المستشرقين ومدونات الرحالة، بل يكمن أيضا في ثنايا كتب السير الذاتية وما تتضمنه قواميس المأثورات الشعبية من أمثال وحكم وأغاني، والتي تعكس لنا شيئًا من التطورات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تجري في المجتمع. كما نجد أصداء التاريخ في الأدب والسينما والصحافة والمباني وأسماء الشوارع حتى الإعلانات التجارية. إن تحليل مضمون مثل تلك المصادر يشبه قراءة "ما بين السطور"، وهى طريقةأكثر جاذبية وواقعية - في تقديري - في الكتابة التاريخية؛ إذ أنها تثير شهية الكاتب لمزيد من البحث، وتثير شغف القارىء لمزيد من القراءة، وتنتج لنا بانوراما تاريخية من دم ولحم.
* كيف يكون الأدب والدراما والأغنية كاشفًا لبعض حقائق التاريخ؟
- الأدب بوتقة تحمل الكثير من أشكال التوثيق التاريخي، حتى لو لم يكن ذلك مقصودا من جانب الأديب؛ فنجيب محفوظ في رواياته سجل لنا أحوال الحارة المصرية، وخيري شلبي جسد لنا الريف المصري وما جرى من تغيرات اجتماعية فأصبحت رواياته سجلا لأحوال القرية المصرية وطبيعة العلاقات الاجتماعية والأسرية فيها. ورواية مثل "الحرام " ليوسف إدريس تعكس حياة التراحيل والمعاناة التي عاشوها.
كذلك الأدب الشعبي يتسم بمصداقية كبيرة عند كتابة التاريخ .. على سبيل المثال فإن أغنيات السبوع التي انتشرت في النصف الأول من القرن الماضي، تبين لنا طبيعة النظرة الدونية لإنجاب الأنثى، ومنها على سبيل المثال الأغنية التي تقول: "لما قالوا ده ولد، انشد ضهري واتفرد، وأما قالوا لي بنية وقعت الحيطة عليا، وجابوا لي البيض بقشره وبدال السمن ميه"
الدراما أيضا تفصح عن الكثير من الظروف التاريخية لعصر ما. على سبيل المثال نتعرف على الأزياء، والمفردات المستخدمة .. مشاهدة الأفلام المصرية القديمة نتعرف منها على أحوال الحارة المصرية، وكيف كانت البيوت تحرص على النظافة والأناقة، ففي كل بيت باقة من الزهور وكونسول لحمل الطربوش والمعاطف. فيلم مثل "لوعة الحب"، الذي قام ببطولته الفنان أحمد مظهر والفنانة شادية والفنان عمر الشريف، يطلعنا على أحوال الطبقة المتوسطة وكيف كانت تعيش حياة جيدة، فسائق القطار لديه بيت أنيق ولديه خادمة تساعد الزوجة في أعمال المنزل.
كلمات الأغاني أيضًا تعكس روح العصر وذائقة الجمهور؛ فحين نستمع إلى الطقاطيق الشهيرة التي غنتها منيرة المهدية مثال "ارخي الستارة اللي في ريحنا لاحسن جيرانا تجرحنا" و "بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة"، تستطيع أن نسجل لونًأ من الأغنيات يشبه ما يعرف بأغاني المهرجانات حاليًا، حتى إن كوكب الشرق أم كلثوم في بداياتها الفنية غنت أغنية تقول فيها "الخلاعة والدلاعة مذهبي، من زمان أهوى صفاها والنبي"
* الحجر والبشر .. ثنائية اعتمدتِ عليها في منهجك البحثي، فكيف كان الحجر مصدرًا للتوثيق التاريخي؟
- دعني أشير أولا إلى أن لوحة من الحجر كشفت أسرار الحضارة المصرية القديمة بأسرها، فلولا اكتشاف حجر رشيد ما علمنا شيئًا عن تلك الحضارة العظيمة، الرسوم المنقوشة على جداريات المعابد وثقت لنا الكثير من أسرار حياة المصريين القدماء وعن معتقداتهم في الحياة والحياة الآخرة.
المباني وحالة المعمار تعكس الحالة الاقتصادية والسياسية في كل عصر من العصور، بل والتوجهات الثقافية والاقتصادية، فالعمائر الضخمة التي خلفها لنا العصر المملوكي تعكس لنا مقدار اهتمام سلاطين المماليك بالعمارة، والتي ربما يكون لها تفسيرها النفسي، فهؤلاء الحكام الذين عانوا إحساسًا بالدونية، بوصفهم عبيدا غرباء عن هذا البلد، ربما أرادوا تعويض هذا الإحساس بترك منجزات معمارية، وهي تعكس أيضا الثراء الاقتصادي والانتعاش في العصر المملوكي.
قراءة الآية القرآنية "كل من عليها فان" في مقابر اليهود بالبساتين تبين وتؤكد حالة التعايش بين المصريين على اختلاف دياناتهم. اللوحات التذكارية على المباني، شواهد القبور .. كلها مادة مهمة للكتابة التاريخية، والتماثيل التي صور فيها الرجل والمرأة في مصر القديمة تعكس طبيعة العلاقة بينهما خصوصا طريقة احتضان الزوجة لزوجها.
وأتذكر دراسة مهمة للباحثة الأمريكية جوديت تاكر، صدرت عن الجامعة الأمريكية منذ نحو ثلاثين عامًا، تناولت فيها جداريات الحج عند المصريين، وهى الرسوم التي يتفنن المصريون في وضعها على جدران منازلهم بعد أداء شعائر الحج، كلون من التباهي بتأدية هذه الشعيرة المقدسة، وبينت "تاكر" كيف تغيرت الرسوم بتغير الأحوال، فحلت الطائرة محل المركب والجمل، بينما ظلت صورة الكعبة وبعض العبارات التيمنية مثل "لبيك اللهم لبيك" ثابتة، وانتهت هذه الدراسة إلى أن فكرة توثيق الحياة على الجدران فكرة ثابتة في الوجدان المصري منذ عهد قدماء المصريين.
فيما يتعلق ببحثي التاريخي، فإنني حين تصديت للبحث عن تاريخ قصور مصر، فإنني اتخذتها مدخلا لتاريخ من صمموها وسكنوها وعاشوا فيها، وأهم الأحداث التي دارت فيها وكيف عكست تصميمات تلك القصور تطور الفكر المعماري، وكيف أكدت على غزارة الوجود الأجنبي ونفوذه بمصر خلال فترة من الفترات، وفي كتابي "على عتبة المقام" كانت مزارات الأولياء وقبابهم وما تشهده من سلوكيات، لا توصف إلا بالخزعبلات، بابا لدراسة التصوف في مصر، وكيف انحرف من فكر فلسفي يدعو للذوبان في الذات الإلهية وعبادة الله الواحد الأحد حبا له لا خوفا من النار أو طمعا من الجنة، إلى هذه الصورة المنحرفة التي شكلتها كرامات مزعومة من المشي على الماء أو محادثة الحيوانات. كما درست من خلالها ظهور ما يعرف بـ"التصوف الشعبي" والذي تشارك فيه المصريون مسلمين ومسيحيين ويهود، وهو ما جعلني في نهاية الأمر أؤكد فكرة الاستمرارية في الشخصية المصرية، التي سبق للمفكر الكبير د. جمال حمدان طرحها. وفي أحدث كتبي "يهود الظاهر" كان المكان وهى حي الظاهر البطل الرئيسي في السطور ببناياته التاريخية التي تشبه كثيرا بنايات القاهرة الخديوية، مما يعكس أن هذا الحي كان سكنا للطبقة الراقية قبل أن يتحول إلى سكن للطبقة المتوسطة. ومن خلال دراستي لمعالم الحي تاريخيا وجغرافيا ومعماريا عملت على توثيق تاريخ كل من سكنوه من أرمن وشوام وإيرانيين ويهود. وكانت معابد اليهود ومدرستهم الإسرائيلية في العباسية نافذة أطللت منها على تاريخ الطائفة القرائية المصرية التي عاش أبناؤها في حي الظاهر حتى خمسينيات القرن الماضي. كما كانت عمارات الحي الشهيرة التي صممها أحد المعماريين الشوام سببا ومناسبة لإلقاء الضوء على تاريخ الشوام وعلاقتهم بالحي خصوصا، وبمصر عموما. .
* فيما يتعلق بكتب السير الذاتية.. إلى أي مدى تعد مصدرًا موضوعيا للكتابة التاريخية؟
- هى مصدر مهم للغاية في الكتابة التاريخية لأن الكاتب حين يروي سيرته، فهو يضع لنا ملامح الزمان والمكان الذي عاشه والشخوص التي التقاها وظروف النشأة التي تعكس أحوال المجتمع اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، فعلى سبيل المثال حين نجد كاتبا كبيرا بحجم أحمد أمين يتحدث عن علاقته الفاترة بزوجته رغم إنجاب هذا العدد الكبير من الأبناء، يمنحنا صورة عن وضع الأسرة المصرية مطلع القرن الماضي وظروف الزواج بين العائلات، وهو ما تثبته الطريقة العجيبة التي تزوج بها زوجته. لكن السير الذاتية ينبغي التعامل معها بحذر الباحث وقدرته على تحليل ما بين السطور، خصوصا حين تتناول بعض الشخصيات العامة، فقد تصدر أحكاما لا تنطق إلا عن الهوى والمصالح الذاتية، وكثيرا ما ينطبق على تلك السير أنها تكذب ولا تتجمل، ولم يفلت من هذه السقطة إلا قليليون اتسمت مذكراتهم بالموضوعية والصدق والشفافية، مثل المفكر أحمد أمين والناقد لويس عوض.
في حين اتسمت بعض السير بالكثير من تجريح الآخرين، فعلى سبيل المثال تنطوي مذكرات الزعيم محمد فريد على كثير من الاتهامات والخوض في الأعراض، فهو يتهم سعد باشا زغلول مثلا أنه على علاقة غير شرعية بالأميرة نازلي فاضل، وأشار إلى أن تعيين يوسف بك شكور مديرًا للمجلس البلدي بالأسكندرية إنما جاء كمكافأة له على تقديمه زوجته لكل من طلبها من مستخدمي المالية الكبار. كذلك امتلأت سيرة عبد الرحمن بدوي بالانتقادات اللاذعة للآخرين، فاتهم كتابات العقاد بالملل، ووصف أحمد أمين بالحقود ضيق الأفق الذي تأكل قلبه الغيرة من كل متفوق وأنه كان ينتحل أعمال الآخرين.
* إلى أي مدى اعتمدت على الصحافة في كتاباتك التاريخية؟
- الصحافة أسعفتني كثيرًا حين تصديت للكتابة عن بعض الشخصيات المجهولة التي لم يتعرض أحد للكتابة عنها من قبل، مثل بعض أمراء وأميرات أسرة محمد علي.
وكذلك حين بدات رحلة البحث حول شخصية ناحوم أفندي، الحاخام الأخير ليهود مصر الذي تولي منصبه من عشرينيات القرن الماضي وحتى الستينيات، فالمعلومات عنه جاءت قليلة نادرة، فلجأت إلى تتبع أخباره في الصحافة المصرية بوجه عام، والصحافة اليهودية المصرية على وجه الخصوص، وقمت بعمل تحليل مضمون لكل ما صدر عنه من بيانات وتصريحات أو تغطية لأنشطته الدينية، حتى تمكنت من إعداد بحث تاريخي منهجي عن شخصيته ومواقفه السياسية من الصهيونية. لكن اللجوء للمادة الصحفية ينبغي أن يراعي التوجهات السياسية والفكرية لكل مطبوعة أيضا، فهو معيار لابد للباحث أن يضعه في المعيار، خصوصا حين يتناول مقالات الرأي.
* هل ستواصلين التنقيب عن تاريخ اليهود المصريين بعد كتابيك: ناحوم أفندي ويهود الظاهر؟
- لقد قطعت شوطا في توثيق تاريخ اليهود المصريين وأعتقد أنني قدمت ما وجدته جديدا في هذا الإطار؛ ففي يهود الظاهر بينت الكثير عن الحياة الاجتماعية لليهود المصريين، خصوصا القرائين وما يخص علاقاتهم بسائر المصريين، فالطائفة القرائية عانت من التهميش ربما لأنها مثلت أقلية داخل الأقلية. وفي كتاب "ناحوم أفندي" أكدت على فكرة مهمة هى أن اليهود المصريين لم يكونوا جميعًا صهاينة، كما أكدت أن الصهيونية ظلت فكرة ملتبسة حتى لدى كبار المفكرين، حتى اندلعت أحداث ثورة البراق، وهو ما منح الصهيونية فرصة جيدة للتسلل بين اليهود في مختلف الأقطار العربية.
لذا سأكتفي بهذا القدر فيما يخص تاريخ اليهود المصريين، والآن بصدد إعداد بحث تاريخي في ميدان آخر ولكن في إطار نفس مشروعي البحثي، وهو إعادة اكتشاف ما دفنه غبار النسيان والتجاهل.
* ماذا يفيد التاريخ في عصر نسف التاريخ بالحروب؟
- التاريخ يعني الهوية والانتماء وتأكيد الحقائق التي تزيف، وتوثيق الجغرافيا التي يحاول البعض تغييرها؛ فقراءة التاريخ تؤكد أن أهل مصر في رباط إلى يوم الدين، وأنهم في الأزمات دوما على قلب رجل واحد، وهى حقيقة تقف ثابتة وتهمش كل محاولات التفرقة وتبني قلعة مهيبة أمام الإرهاب ومثيري الفتن \. والتاريخ أيضا يؤكد أن الفلسطينين حاولوا دوما حماية أرضهم ولم يفرطوا فيها، كما حاولت الصهيونية الترويج للأمر. ولذلك نجد أن إسرائيل شنت حربا همجية على الجغرافيا الفلسطينية في محاولة لمحوها وتزييف التاريخ، وحين اقتحمت القوات الأمريكية العراق اتجهت إلى المتحف الوطني للعبث بمحتوياته واختفت بعض القطع المهمة منها لوحة السبي البابلي لليهود على يد نبوخذ نصر، وهو ما يؤكد وجود نية مبيتة للنيل من التاريخ وتزويره.
* هل أنت فعلا في خصومة مع الزمن أوالعصر الآتي بأفكارك؟
- الاهتمام بالتاريخ لا يعني على الإطلاق الخصومة مع الحاضر، بل على العكس إن قراءة التاريخ تساعدنا على فهم ما نحياه والتهيؤ لما هو آت في الغد. لكني بالقطع في خصومة مع كل محاولات تشويه التاريخ وتزييفه أو تهميش بعض حلقاته أو التعامل معه بمنطق الانتقاء، وهذا ما يحكمني عند اختيار موضوع البحث، فأنا دوما بصدد كتابة تاريخ ما أهمله التاريخ. وللأسف البعض يعمد حاليا بدافع الجهل إلى التعتيم على بعض وقائع التاريخ، بزعم عدم النيل من شخوص التاريخ والإبقاء على ثوب الأسطورية الذي يغلفه، رغم أن بعض تلك الشخصيات اعترفت بنواقصها، فالزعيم سعد باشا زغلول اعترف في مذكراته أنه مدمن للقمار وأن زوجته السيدة صفية هددته بأن تتركه إذا لم يقلع عن هذه العادة.
* هل التاريخ يعتبر محمية المبدع من السقوط في هوة واقع التزييف؟
- بكل تأكيد .. وليس المبدع فحسب، بل إن التاريخ محمية المجتمعات بأكملها؛ ففيه ما ينفي محاولات تشويه الهوية أو إعادة تشكيل الجغرافيا، فطابا استعادتها مصر بسبب واقعة تاريخية تمثلت في حادث النزاع حول طابا 1902 والتي تأكد فيها أنها جزء لا يتجزأ من التراب الوطني. والتاريخ يبرىء الإسلام من الهمجية، ولنقارن بين تاريخ المسلمين في الأندلس وبين محاكم التفتيش التي نالت من الجميع، والتاريخ يثبت أن الزواج غير الشرعي بين الدين والسياسة لم يكن إلا لأغراض إمبريالية، كما حدث في الحروب الصليبية التي جعلت من استعادة قبر السيد المسيح شعارًا لها، بينما كانت تبحث عن كنوز الشرق.
* هل يعيد التاريخ نفسه؟
- حين تتشابه الظروف والمعطيات والمقدمات – حسب القاعدة المنطقية – تتشابه النتائج ؛ فحين نتناول تاريخ الاحتلال على اختلاف أشكاله، سنجده دائما ما ابتدع المبررات التي تزين سلوكه الإمبريالي وتبرره، بداية من فجر التاريخ وحتى العصر الحديث. وحين نتطرق لعصور الاضمحلال في بلد من البلدان سنجد الظروف والمظاهر ذاتها.
بعض المشاهد تكاد تتكرر حرفيا، فحين تختلف المصالح تذهب الصداقة، حدث هذا حين اغتال "بروتس" صديقه يوليوس قيصر، وحين تآمر الظاهر بيبرس على صديقه ورفيقه "قطز". المشهد هو هو بتفاصيله.
مشهد الإسكندر الأكبر وهو يقدم القرابين في معبد الإله آمون بسيوة تقربا إلى المصريين لعلمه أن الدين هو مكنون فطرتهم، لا يختلف عن مشهد نابليون بونابرت في حلقات الذكر يتمايل يمنة ويسرة مع المريدين إثباتا لحبه للإسلام توددا للمصريين ورغبة في كسب ثقتهم.
الخيانة مثلا، كانت سببا في فشل الثورة العرابية واحتلال فلسطين وسقوط عكا وسقوط طروادة.
* إلى أي مدى أخذتك الكتابة من الصحافة؟
- لقد فررت من الصحافة إلى الكتابة ؛ لأن الصحافة تعيش في السنوات الأخيرة حالة من العبث والتردي والسطحية بفعل الأقلام الضعيفة وتراجع معايير اختيار الصحفيين سواء داخل المؤسسات الصحفية أو داخل نقابة الصحفيين؛ المحسوبية والواسطة والحسابات الانتخابية أضاعت المهنة. هذا بخلاف اختلال معايير اختيار القيادات الصحفية التي أفرزت عددا من المسؤولين الذين لا يجدون وسيلة لإخفاء ضعفهم المهني إلا بكبت المبدعين الحقيقيين في المهنة، فوجدت نفسي أنفق جهدي في نقاشات عبثيةوصراعات لم أسع إليها. أما الكتابة فقد أضحت عالمي الرحب الذي لا وجود فيه إلا للقلم الجيد والفكر الجيد. فالكتابة أعادت لي شغفي القديم وضخت في تلابيب رأسي الرغبة الدائمة في البحث والتنقيب.
----------------------------------
حوار - حسين عبد الرحيم