منذ أن بدأت الإدارة الأمريكية الجديدة مهامها، وهي تصدر القرارات والمقترحات، بين الثانية والأخرى، فالعالم لا يكاد يلتقط أنفاسه من قرار حتى تتبعه بآخر، وكان لمنطقة الشرق الأوسط النصيب الوافر من هذه الأفكار والمقترحات، وبالطبع الوضع في قطاع غزة بؤرة الاهتمام، فمرة بالتهجير إلى أقصى الأرض وأدناها، إلى تعيين حاكم عسكري للقطاع، يذكرنا بعهود الاستعمار الأولى، فقد نقلت وكالة "رويترز" عن مصادر قولها: "إن الولايات المتحدة وإسرائيل تناقشان إمكانية تشكيل إدارة أمريكية لقطاع غزة، وأن واشنطن ستعين حاكمًا أمريكيًّا للإدارة المؤقتة، وستستعين بتكنوقراط فلسطينيين ضمن هذه الإدارة التي ستستمر "حتى نزع سلاح القطاع"، فيما أكدت حركة حماس رفضها القاطع لأي إدارة أجنبية للقطاع، مشددة على أن الشعب الفلسطيني فقط هو الذي يقرر من يحكم غزة.
فما وقع هذه الفكرة الأخيرة على الفلسطينيين؟ وما مدى مشروعيتها؟
يقول د. تحسين الأسطل نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين: "إن قضية الإدارة الأمريكية في الآونة الأخيرة، أنها أصبحت تصدر عدة تصريحات، ربما تعكس حالة تخبط، أو ربما حالة البحث عن ذرائع للاستمرار في الجرائم، في حين أنها تدرك تمامًا ما تقوله، وتعرف الردَّ مسبقًا. في البداية طرحت تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة، وهي تعلم أن ليس هناك إمكانية لتنفيذ هذا المقترح غير المقبول، لا فلسطينيًّا، ولا عربيًّا، ولا دوليًّا؛ لأنه بمثابة جريمة حرب مكتملة الأركان، والآن تطرح فكرة حاكم عسكري أو حاكم أمريكي للقطاع، وهذه كلها حلول ترقيعية، لا ترتقي للمناقشة أو البحث؛ لأنها غير مقبولة لا فلسطينيًّا ولا عربيًّا.
وأضاف: "الحل موجود؛ وهو التزام دولة الاحتلال بالمواثيق والأعراف الدولية، وفقًا للاتفاقات الموقعة مع منظمة التحرير الفلسطينية برعاية دولية، والرباعية الدولية عليها أن تقوم بما يلزمها فعله؛ لحماية السلم والاستقرار الدوليين، وإعادة قطاع غزة لحكومة السلطة الفلسطينية، والضغط على دولة الاحتلال لقبول هذا الخيار.
د. تحسين الأسطل: 15 عامًا من التوسع في الاستيطان والتهويد فماذا ننتظر!
أوسلو الحل
ويرى الأسطل أن إسرائيل ستلتزم الصمت تجاه هذه الفكرة؛ لأنها تعرف مسبقًا أنها ستقابل برفض فلسطيني وعربي، وأنها كانت من الأفكار الإسرائيلية التي تتحدث عن اليوم التالي، ووجود قوات غربية في القطاع، وهذا الاقتراح قوبل بالرفض، والآن تسربت هذه الفكرة مرة أخرى للإدارة الأمريكية الجديدة، وإعادة طرحها بهذا الشكل، وتظهر أن الإدارة الأمريكية وحكومة الاحتلال يقدمان الحلول، والشعب الفلسطيني يقابل هذه الحلول بالرفض، لكن هذه المبادرات أو المقترحات ما هي إلا ادعاءات حلول؛ من أجل فقط تسجيل مواقف وخداع العالم، بأن هناك من يطرح حلًّا، ولكن حقيقة الأمر هي حلول غير واقعية، وغير مقبولة لا شكلًا ولا مضمونًا، وإلا فما الفرق بين الحاكم الأمريكي والحاكم الإسرائيلي؟ وبالتالي في كل الأحوال، لا بدَّ أن من يحكم فلسطين هي القيادة الفلسطينية ومنظمة التحرير، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وعلى الجميع الالتزام بالقرارات الدولية الموقعة، قطاع غزة ما زال تحت اتفاق أوسلو، بمعنى أنه تحت الولاية لمنظمة التحرير الفلسطينية بالاعتراف الدولي، وبالتالي فإن أي تغيير في المشهد، يريد قتل هذا الاتفاق، وتدمير حق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته الفلسطينية، وحل الدولتين، مما يدفعنا إلى المربع الأول وما كنا نتحدث به في بداية الصراع، بعد أن تجاوزنا كثيرًا من القضايا التي تم تجاوزها وحلها، ولكن التعاطي مع القضية من خلال هذه الحلول ستعيدنا إلى المربع الأول.
وأضاف: "أعتقد أن هذه الحلول الترقيعية ستؤدي إلى تعميق الأزمة مرة أخرى، وربما سينحصر الصراع في قوى الرفض لعملية السلام؛ وهو ما أتى به تمرد الحكومة الإسرائيلية على اتفاقيات السلام الموقعة، وقتل كل أحلام الشعب الفلسطيني، منذ أكثر من 15 سنة وهي ترفض الحوار مع القيادة الفلسطينية، وتعزز الاستيطان في الضفة الغربية، وتهود القدس، وتمضي في مخططاتها الاستعمارية، وتفرض وقائع جديدة على الأرض، وفي نفس الوقت كانت تسهل لحركة حماس المضي في انفصالها، وتجبرها على عدم إنجاح جهود المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية، ونحن بشكل واضح نقول بأن الحل في عودة منظمة التحرير لقيادة قطاع غزة".
د. مهران: الوصاية الأمريكية على غزة انقلاب على الشرعية الدولية وعودة للاستعمار بثوب جديد
أما التعاطي القانوني الدولي لهذه المقترحات الأمريكية - الإسرائيلية، فوصفه الدكتور محمد محمود مهران، المتخصص في القانون الدولي وعضو الجمعيتين الأمريكية والأوروبية للقانون الدولي، بأنه عودة لنظام الانتداب الاستعماري بثوب جديد، محذرًا من خطورة المخطط الأمريكي لفرض إدارة أجنبية على قطاع غزة، معتبرًا أنه يشكل انتهاكًا صارخًا لميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ القانون الدولي الأساسية.
وقال الدكتور مهران: "إن اقتراح الولايات المتحدة تعيين حاكم أمريكي لإدارة قطاع غزة، يتعارض بشكل مباشر مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير؛ وهو حق أساسي، كفلته المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة، والعديد من قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، ويعد من القواعد الآمرة في القانون الدولي، التي لا يجوز الانتقاص منها".
وأضاف: "إن واشنطن تحاول تجاوز الإجماع الدولي، الذي تبلور حول حل الدولتين كأساس لإنهاء الصراع، وتسعى لفرض واقع جديد لا يعترف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؛ وهو ما يقوض كل الجهود الدولية والإقليمية لإحلال السلام العادل والشامل في المنطقة".
كشف النوايا
وأشار مهران إلى أن الحديث عن استمرار الإدارة الأمريكية حتى نزع سلاح القطاع، يعكس النوايا الحقيقية للاقتراح. موضحًا أن هذا ليس مشروعًا لإدارة مدنية مؤقتة؛ بل هو محاولة مكشوفة لتنفيذ الأجندة الإسرائيلية تحت غطاء دولي، لافتًا إلى أن الهدف الحقيقي هو استكمال عملية تفريغ القطاع من المقاومة الفلسطينية، وتحويله إلى كيان منزوع السيادة، يخضع للهيمنة الإسرائيلية.
وتابع: "إن التاريخ يعلمنا أن مثل هذه الترتيبات المؤقتة، غالبًا ما تتحول إلى احتلال طويل الأمد، والاستعانة بـ تكنوقراط فلسطينيين ليست سوى محاولة لإضفاء شرعية زائفة على هذا المخطط".
وشدد على أن ردود الفعل الفلسطينية الرافضة للمقترح الأمريكي متسقة تمامًا مع مبادئ القانون الدولي، مؤكدًا أنه عندما يصرّ الفلسطينيون أن الشعب الفلسطيني فقط هو الذي يقرر من يحكم غزة، فهم يستندون إلى حقهم الأصيل في السيادة، وإدارة شؤونهم بأنفسهم؛ وهو حق كفلته المواثيق الدولية، ومنها: ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
مواقف وبدائل
وحول الموقف المصري، أوضح مهران أن موقف مصر ثابت وراسخ في دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ومصر تدرك أن المخطط الأمريكي يتجاوز إدارة غزة، إلى محاولة تفكيك القضية الفلسطينية، والتنصل من اتفاقيات السلام التي أقرت بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة.
وعن البدائل، قال: "القانون الدولي يوفر البديل الواضح والمشروع؛ وهو تمكين الشعب الفلسطيني من إدارة شؤونه ضمن دولة مستقلة ذات سيادة، على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وقد آن الأوان لإنهاء الاحتلال، لا إعادة إنتاجه بأشكال جديدة".
واستطرد: "الدول التي تدعي احترام القانون الدولي والنظام الدولي القائم على القواعد، يجب أن تتصدى لهذا المخطط، الذي يمثل عودة للقرن التاسع عشر، ونظام الوصاية الاستعماري، المتنافي مع روح العصر ومبادئ القانون الدولي المعاصر".
وأكد أن القرارات الدولية؛ بما فيها: قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، تؤكد على الوحدة الجغرافية والسياسية للأراضي الفلسطينية، معتبرًا أن أي محاولة لفصل غزة عن الضفة الغربية، أو فرض إدارات مختلفة عليهما، تتعارض مع هذه القرارات، وتقوض مبدأ الوحدة الإقليمية للدولة الفلسطينية المنشودة.
ودعا مجددًا المجتمع الدولي، وخاصة الدول العربية، التحرك بشكل فوري وحاسم؛ لإحباط هذا المخطط الخطير، الذي يستهدف القضية الفلسطينية في جوهرها، ومناشدًا الأمم المتحدة ومجلس الأمن، التأكيد على أن أي ترتيبات مستقبلية لإدارة غزة، يجب أن تحترم السيادة الفلسطينية، وأن تكون نابعة من إرادة الشعب الفلسطيني، وليست مفروضة عليه من الخارج.