الإقبال غير المسبوق على انتخابات نقابة الصحفيين التي جرت يوم الجمعة، إذ بلغت نسبة المشاركة نحو 60 بالمئة، عبرت الجمعية العمومية للصحفيين من خلاله عن وعي الصحفيين بأهمية انتخابات النقابة، وأكدوا الرسائل ذاتها التي وجهوها في انتخابات 2023، وبات جلياً لكل من يطمح في الفوز في أي انتخابات قادمة، أن الانشغال بالهموم العامة للصحفيين والوعي بالقضايا والتحديات التي تواجهها مهنة الصحافة في ظل المتغيرات السريعة المرتبطة بثورة الاتصالات والمعلومات مع الدخول في عصر الذكاء الاصطناعي، وما تحدثه من تغييرات في طبيعة المهنة، وامتلاك رؤية وتصور للتعامل مع هذه القضايا والتحديات والدفاع عن الصحفيين وحقوقهم، هي أوراق الاعتماد التي يتعين على المرشحين المتنافسين تقديمها. فلم يعد الاعتماد غلى أصوات مضمونة في المؤسسات الصحفية أو الرهان على دعم أي من أجهزة الدولة يكفي لفوز المرشح، وإنما الاعتماد أولاً وأخيراً على اقتناع غالبية الصحفيين، أعضاء الجمعية العمومية بالمرشح وبأن لديه برنامجاً عمليا قابلا للتنفيذ، أو امتلاكه مهارات يوظفها في تحقيق المصالح العامة للصحفيين من خلال التوصل إلى تفاهمات مع الدولة ومؤسساتها وهو الأمر الذي يتطلب وعياً سياسياً ومهارات تفاوضية ومرونة، والتزاماً صادقاً وتفرغاً للقيام بأعباء المهام الموكلة إليه بحكم المنصب الذي يشغله. فلم تعد المناصب في مجلس نقابة الصحفيين من أجل الوجاهة وخدمة أي مصالح أخرى غير مصالح الصحفيين، وهو ما أكده الصحفيون للمرة الثانية على التوالي، وهو الأمر الذي جعل من الانتخابات السابقة انتخابات فارقة في تاريخ النقابة، وقد أثبتت الانتخابات الأخيرة عدم جدوى الأساليب القديمة، وأن التعويل عليها لا يضمن الفوز في الانتخابات، وأنه لا بد من إدراك التغيرات وأن يكون قادة العمل النقابي في وعيهم بطبيعة المشكلات والتحديات وترتيب الأولويات، أسبق من أعضاء الجمعية العمومية.
حرية الصحافة واستعادة دور النقابة
الرسالة الأولى التي حميتها الانتخابات الأخيرة، عبر عنها فارق الأصوات الكبير الذي ضمن للنقيب خالد البلشي، فوزاً مريحاً على منافسه الرئيسي، عبد المحسن سلامة، حوالي 800 صوت، وأكدت الهتافات التي رددها الصحفيون احتفالاً بفوز البلشي، وطالبت بحرية الصحافة وعي الصحفيين، خصوصاً الأجيال الشابة منهم، أن السبب الرئيسي لتراجع المهنة وعدم مواكبتها التغيرات الجارية، إنما يكمن في غياب حرية الصحافة، التي ألغت التمايز بين الصحف وحولت الكثير منها إلى ما يشبه النشرات الدعائية التي لا تقدم أي قيمة مضافة للقراء والمتابعين، وانعكس كذلك على التراجع المستمر في توزيع الصحف وفقدانها قيمتها لدى القارئ الذي بات في وسعه الحصول على المعلومات والأخبار عما يحدث في الداخل والخارج من مصادر بديلة ومنافسة. وهنا يبرز دور النقابة ومجلسها الموقر خصوصاً في العمل على التوصيات الصادرة عن المؤتمر السادس للصحفيين، الذي انعقد في ديسمبر الماضي، وتحويلها إلى برامج عمل قابلة للتنفيذ.
وتقدم توصيات المؤتمر الذي انعقد على مدار ثلاثة أيام والذي عكف مجلس النقابة على تنظيمه، مستفيدا من خبرات كبار الصحفيين والقيادات الإعلامية وأساتذة الجامعات، برنامج عمل شامل، يتعين على المجلس الحالي تطويره إلى خطط عملية قابلة للتنفيذ وفقاً لأولويات يتم الاتفاق عليها من خلال ورش عمل يشترك فيها الصحفيون كي تنفذ النقابة ما يمكن لها تنفيذه وتعمل مع الصحفيين والمؤسسات الصحفية العامة والخاصة على تنفيذه. إن ترجمة هذه التوصيات إلى برامج عمل قابلة للتنفيذ بمشاركة الصحفيين هو الترجمة الحقيقية لسعى الصحفيين من أجل استعادة دور نقابتهم والذي يعد مدخلا أساسياً للنضال من أجل حرية الصحافة كشرط رئيسي لتطوير المهنة واستعادة دورها ومكانتها على نحو يساعد على تعزيز صناعة الصحافة لمواجهة التحديات التي تواجهها في ضوء التطور التكنولوجي وللتوافق مع اقتصاديات السوق. إن العمل مع الصحفيين وتفعيل دور الجمعيات العمومية للمؤسسات، من أجل إصلاحها إدارياً وما يقتضيه ذلك من استحداث لإدارات والعمل على التطوير المهني لكل صحفي وموظف في هذه المؤسسات، عبر برامج للتدريب يمكن للنقابة أن تعمل على تنفيذ بعضها، منفردة أو بالتعاون مع المؤسسات، بما يساعد تلك المؤسسات على تحديث هياكلها الوظيفية وتدريب العاملين فيها على المهارات التي تتطلبها تلك الوظائف، ويتعين على النقيب ومجلس النقابة الجديد مواصلة الجهد الذي بدأه المجلس في دورته السابقة لضمان تعيين الصحفيين غير المعينين في الصحف القومية، وهذه الإصلاحات ضرورية لحل جانب من أزمة الصحافة الورقية، ذلك أن استراتيجيات التكامل والتسويق بين النسخة المطبوعة والنسخة الرقمية، لا ينفصلان عن تقديم منتج يحتاجه القارئ، ويجب أن يتم وضع هذه الاستراتيجيات بالاستناد إلى بيانات ومعلومات دقيقة عن تفضيلات الأجيال الشابة من القراء، لضخ الاستثمارات في مكانها الصحيح، بعبارة أخرى يتعين على مجلس النقابة بقدر أكبر من المرونة مع توصيات المؤتمر السادس، وأن يضطلع بدور المحفز للصحفيين وإشراكهم في وضع البرامج والاستراتيجيات من خلال ورش عمل وحلقات نقاش وجلسات استماع ينظمها. ويمكن للنقابة أن تلعب دورا رياديا ورئيسيا في التدريب على استراتيجيات المحتوى، بما يحقق توصية المؤتمر العام السادس، للاتجاه نحو التحليل والتعمق والتخصص في القضايا والاعتماد على الكتابة الإبداعية التي تعتمد على السرد القصصي والأفكار الجديدة، والتوسع في برامج التدريب على الصحافة الاستقصائية، وتدريب الصحفيين على مهام المراسلين الذين يقومون بتغطية الأحداث الإقليمية والدولية بالتعاون مع وكالة أنباء الشرق الأوسط التي تعتبر مرجعا ومصدرا للأخبار وتغطية الأحداث الدولية.
يرتبط بما سبق نقطة بالغة الأهمية ووثيقة الصلة بمطلب تعزيز حرية الصحافة، والتي تقتضي الإسراع في تنفيذ التوصية الخاصة بوضع لائحة جديدة للقيد في النقابة، تراعي التطورات في سوق العمل والقوانين المنظمة للصحافة والإعلام، والالتزام بأن يشرع مجلس النقابة في تشكيل لجنة من أعضاء الجمعية العمومية والمجلس ووضع معايير وضوابط لاختيار أعضاء هذه اللجنة التي تعكف على وضع لائحة الجديدة وعرضها على الجمعية العمومية لتطويرها وإقرارها. وأن تبدي هذه اللائحة مزيداً من الاهتمام بالصحافة الإلكترونية، وتطويرها استناداً إلى تقييم احتياجات الجمهور المستهدف، وتحقيق التكامل مع منصات الإعلام الاجتماعي واستغلالها لصالح المنصة الرقمية، والعمل على تطويرها كي لا تتحول إلى نسخة مكررة من شبكات الإعلام الاجتماعي، والاستفادة من الإمكانات التي تتيحها تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي المختلفة، والعمل على وضع دليل معايير وإرشادات لأخلاقياته في الصحافة، ووضع برامج لتوعية الصحفيين بالاستخدام الراشد والأخلاقي وقواعد الشفافية وتطوير لحماية الملكية الفكرية، وعدم انتهاكها.
ولعل توصية المؤتمر العام للصحفيين التي شددت على أهمية فتح حوار بين كليات الإعلام في الجامعات المختلفة والمؤسسات الصحفية لوضع خارطة طريق تحدد احتياجات السوق في التخصصات المختلفة في مجال الصحافة، والتي يمكن تعزيزها بتوصية خاصة بتعزيز دور المؤسسات الصحفية في التوسع في تدريب طلبة كليات الإعلام، خصوصاً في آخر عامين دراسيين على الجوانب العملية لممارسة المهنة، الأمر الذي يساعد على رفع كفاءة كليات الإعلام ويوفر للمؤسسات صحفيين ذوي خبرة، وكذلك ضم صحفيين من ذوي الخبرة في برامج التدريب والتدريس العملي في كليات الإعلام. العمل على هذه التوصيات يعيد للنقابة دورها الأساسي في الارتقاء بمستوى المهنة وتحسين صورتها وسمعتها ويضمن ألا تتحول الصحافة إلى مهنة لمن لا مهنة له، حسبما يقال، مع مراعاة عدم حرمان الموهوبين الذين لم تتح لهم فرصة الدراسة في كليات وأقسام الإعلام، والكوادر الحاصلة على تأهيل دراسي يمكنها من العمل في مجال الصحافة المتخصصة.
المجلس كآلية لفرز قيادات العمل النقابي
في تحليل الانتخابات، وهذه ينطبق على أي انتخابات، قد لا يقل تحليل أسباب الفشل، وعدم الحصول على العدد اللازم من الأصوات التي تضمن الفوز، عن تحليل أسباب النجاح. وتؤكد انتخابات الصحفيين الأخيرة، وكذلك الانتخابات السابقة عليها، انتخابات 2023، أن أداء أعضاء المجلس خلال فترة عضويتهم عامل مهم في التصويت في الانتخابات التي أصبحت مناسبة لمكافأة العضو الذي يتعامل بالمسؤولية اللازمة مع المهام الموكلة والذي يبذل جهدا لخدمة الصحفيين ومساعدتهم وتقديم خدمات لهم في مختلف المجالات المهنية والشخصية والعامة، بتجرد ونزاهة وعدم المساومة على أصواتهم مقابل هذه الخدمات. وتقدم هذه الانتخابات مؤهلات جديدة لمن يطمحون في الفوز في انتخابات الصحفيين، في مقدمتها، وخلافاً لما زعمه بعض المرشحين، منح العمل النقابي ما يلزم من وقت وجهد. وأحد الدروس المهمة المستفادة من الانتخابات الأخيرة، تقضي بأن يعيد المرشح الذي تمنعه التزاماته وأعبائه من تخصيص الوقت اللازم للعمل النقابي التفكير مرتين قبل الترشح لعضوية المجلس، والتفكير ثلاث مرات قبل الترشح لمنصب النقيب. فالصحفيون باتوا أكثر ميلا لمنح أصواتهم لأعضاء المجلس الذين يجدونهم وقت الحاجة وفي الأزمات.
لقد تعلم بعض المرشحين لعضوية المجلس في الانتخابات الأخيرة والذين لم يوفقوا في الانتخابات السابقة من تجربتهم، وقدموا أداء مغايرا في هذه الانتخابات، مكنهم من حصد أصوات الناخبين الذين شاركوا، لكن يتعين عليهم أن يدركوا أن ما حققوه في الانتخابات الأخيرة لا يكفي لأن يضمن لهم الفوز مرة أخرى، وأن أمورا كثيرة ستتوقف على كيفية تفاعلهم مع زملائهم في مجلس النقابة والتعاون من أجل مصلحة المهنة والعاملين فيها. وإذا كانت الرسالة الأساسية التي قدمتها الجمعية العمومية للصحفيين هي تأكيد وحدة الصحفيين من أجل الدفاع عن النقابة واستقلاليتها والدفاع عن المهنة، فمن المتوقع من كل عضو من أعضاء المجلس القدامى والجدد إظهار روح الوحدة والتعاون في المجلس. وبالنظر إلى المهام الجسيمة المنتظرة من المجلس في تشكيله الجديد، والتي تحددها توصيات المؤتمر العام للصحفيين، يتعين على كل منهم تحديد المسؤوليات والدور الذي يمكن أن يقوم به لإنجاح عمل المجلس في دورته الجديدة، وأن يدرك كل منهم أن الفائز بعضوية المجلس إنما يعمل من أجل جميع الصحفيين، الذين صوتوا له أو صوتوا لمرشحين آخرين. لا شك أن نجاح المجلس هو مسؤولية كل أعضائه ومسؤولية النقيب، وعليه ستتحدد معالم كثيرة للعمل النقابي في الفترة القادمة، لكن الفرصة متاحة أيضاً لكي يتفانى كل عضو من أعضاء وأن يُبدع في أداء المهام الموكلة إليه.
إن أمام المجلس في تشكيلته الجديدة، والتي لا يوجد مؤشرات على أنها تعبر عن أي قوائم تشكل تحيزات قد تؤثر على أداء أعضاء، فجميع الفائزين فازوا عن استحقاق ونجاح حملاتهم الانتخابية مع حرص معظم المرشحين على أن ينالوا ثقة الناخبين بشكل منفرد وعلى أساس ما يطرحون من وعود وبرامج انتخابية. لقد قدم عضو المجلس السابق أيمن عبد المجيد تجربة مهمة من خلال عمله وجهوده في لجنة المعاشات التي أوكلت إليه والتي كان لها صدى في مساحة التأييد التي حظي بها في الانتخابات الأخيرة والتي قد تعززه فرصه في الانتخابات القادمة وقدم مثالا يحتذى في العمل النقابي المنزه والمجرد من أي حسابات انتخابية وقدم تجربة تستحق التنويه والانتباه والاهتمام وتسهل عملية تشكيل المجلس الجديد وتوزيع الملفات والمهام على الأعضاء. إن هذا هو التحدي في الاجتماع في المجلس الجديد وستتوقف أمور كثيرة في النقابة ووحدتها واستقلاليتها على ما سيظهره الأعضاء من حرص على التفاهم ورغبة في التعاون والعمل كفريق.
---------------------------
بقلم: أشرف راضي