30 - 04 - 2025

قناة السويس .. نبوءة حكماء دلفي !

قناة السويس .. نبوءة حكماء دلفي !

عندما علم نوبار باشا أن الوالي سعيد قد منح ديليسبس امتياز حفر قناة السويس، تساءل لماذا لم يقم ذلك المدرس الغبي بتعليم تلميذه "سعيد" الذي سيصبح حاكم المستقبل تاريخ بلاده مصر؟، لماذا لم يجعله يقرأ الفقرة التي قال فيها هيردوت أن الفرعون "نيكاو" عندما فكر في عمل قناة للربط بين البحرين، فإنه استشار أولاً حكماء دلفي ، وبعد ذلك تخلي عن المشروع مرة واحدة عندما تنبأ "بيتي" أن هذا العمل سوف يؤدي إلي وقوع البلاد في أيدي الغرباء ..!

 فهل كان حفر هذه القناة في النهاية نعمة أم  نقمة ؟!، هل تحققت نبوءة حكماء دلفي ؟!

في صيف عام ١٩٥٦ ، أصبحت مصر – فجأة – مرة أخري ، محط أنظار العالم ، فبعد أن حبست العواصم الكبري أنفاسها في إنتظار كيف سيكون رد الكولونيل ناصر علي سحب تمويل السد العالي، وخاصة ما صاحبه من أسلوب حديث مهين لسفير مصر في واشنطن أحمد حسين، بل وتعمد وزير الخارجية الأمريكي فوستر دالاس السخرية من قدرة مصر الإقتصادية.. كل ذلك كان هيناً عندما جلجل صوت الكولونيل الشاب ناصر في ميدان المنشية يوم 26 يوليو 1956 معلناً تأميم الشركة العالمية لقناة السويس.. واندفعت الأصابع ترسل البرقيات الشفرية عبر عواصم الغرب، وسارع رئيس  الوزراء البريطاني إيدن يدعو إلي تنسيق ثلاثي (بريطاني / فرنسي / أمريكي)، وسادت العصبية بين كبار المسئولين وهم يهددون بشكل مباشر وغير مباشر بالحل العسكري.. وصرخ إيدن في كبار معاونيه عندما كانوا يناقشون الأبعاد القانونية والسياسية لقرار التأميم، وقال بعصبية: "يجب أن نتخلص منه .. يجب أن يختفي ناصر".. وعندما قدم إليه مستشاره القانوني الوثائق التي تثبت قانونية موقف الحكومة المصرية، قام إيدن بتمزيق الوثائق بعصبية، وقذفها في وجه مستشاره قائلاً: "أنا لا أعبأ بذلك !" ...

وفي الإسكندرية كان عبد الناصر يمضي أياماً بلا نوم تقريباً، يقرأ بنهم كل ما يرد في الصحف والمجلات الأجنبية من تقارير وأخبار، ويرهف السمع للإذاعات الأجنبية وخاصة بي بي سي، ويعقد إجتماعات مع معاونيه لبحث كل الإحتمالات، وكان يشعر بفخر بما يصله من الترحيب الهائل ليس فقط بين الشعب المصري وإنما بين الشعوب العربية وشعوب العالم الثالث كله، فقد كانت خطوة جريئة من أولي خطوات الدول المغلوبة علي أمرها لإسترداد ثرواتها من الدول الإستعمارية ..

ولا بد أن أعترف، أنني ولسنوات طويلة وجدت نفسي تائهاً في غابة كثيفة من الوثائق التي تسد كل المنافذ التي أحاول من خلالها أن أجد الطريق الأيسر والأقصر للوصول إلي الهدف الذي سعيت إليه منذ سنوات كي أرسم لوحة "الدبلوماسية في ظلال المدافع – أزمة السويس" .. السويس المدينة التي حاربت علي تخومها في يومي 23 و 24 أكتوبر 1973 وكدت أدفن فيها، أصبحت بعثاً جديداً بين سطوري، في محاولة للإطلال علي بعض الحقائق، وتقدير الدور الذي لعبه رجال الدبلوماسية المصرية في تلك الأيام التي أكتنفها دخان كثيف، فلما مرت تلك الأيام، خرج من بين الظلام أولئك الذين نجحوا في تسلق المنابر وإجتذاب هالات الضوء.. بينما تواري في تواضع هؤلاء الذين أحترقت أيامهم في أتون الأزمة..

كنت أغوص في أعماق مئات الآف من الصفحات التي حال لون أغلبها، ومات من كتبوها قبل سنين، كي ألتقط من بين هذا الخضم المائج ما يمكن أن يضيف قطعة جديدة إلي أرابيسك "أزمة السويس" .. فعلي سبيل المثال وليس الحصر، وجدت أنه من الإنصاف – ورغم أي تحفظات أيديولوجية – أن تتم الإضاءة علي جهد سعودي دبلوماسي واضح، قاده الأمير فيصل وزير الخارجية السعودي (الملك فيما بعد، والذي قاد بعد سنوات عديدة معركة حظر تصدير البترول التي واكبت معركة العبور في أكتوبر 1973، وتم إغتياله بعد ذلك في ظروف غامضة لم تكشف بعد كل أبعادها) ، وكان هناك إسهام واضح لبعض العاملين المصريين في البلاط الملكي السعودي وأبرزهم يوسف ياسين وعزام باشا.

في صيف وخريف 1956، امتلأ الأثير عبر فضاءات الكرة الأرضية يحمل البرقيات من القاهرة وواشنطن وباريس ولندن وموسكو وتل أبيب.. إلخ، وفيها لقاءات بين أبرز الشخصيات وتقديرات موقف لأجهزة مخابرات وتقارير للدبلوماسيين ورجال القانون الدولي، وأضيئت المصابيح في مبني الأمم المتحدة القابع في جزيرة منهاتن في نيويورك، وتزاحم الدبلوماسيون عبر البوابات الأمنية كي يلحقوا بالإجتماعات المتتالية، وكي يستشفوا مواقف ويبعثوا برسائل مباشرة وغير مباشرة ..

وفي القاهرة كان الداهية العجوز الدكتور محمود فوزي يراقب ويفكر ويعصر كل معلوماته وخبراته ويصارع شكوكه وأوهامه.. الحمل ثقيل، ويبدو الرجل في حجمه الضئيل يواجه وحوشاً وأشباحاً عملاقة تأتيه من كل اتجاه.. تذرع بصبر موروث، وثقة لا محدودة من قائد إعتاد علي الشك والإرتياب، وشعب يتنفس لأول مرة تحت حكم أبنائه بعد ما يزيد علي ألفي عام تحت حكم أجنبي ..

وحتي عندما سكتت المدافع ، وانقشع دخان البارود من سماء مصر، وعادت الدبابات تجرجر جنازيرها إلي مرابضها، واضطجع الجنود في ثكناتهم، ظلت المعركة مستمرة، يخوضها رجال ونساء في عواصم الدنيا .. 

لم تنته المعركة الدبلوماسية، فهي تسبق الحرب وتواكبها ثم تلحق بها دون توقف .. معركة الياقات المنشاه التي تستبدل بالبندقية المذكرة وبالذخيرة القراءة، وفي رقة شديدة تغلف القبضة الحديدية في قفاز من حرير .

حيال بعض الأحداث التي عادت أمامي إلي الحياة من الماضي في وثائق تنفض عن نفسها التراب، كنت أشعر أحياناً بالغضب، وكأنني علي وشك أن أمسك السطر حتي لا ينزلق الموقف التفاوضي المصري إلي السطر التالي.. رغم أن التاريخ كله قد كتب، أو نظن ذلك، ورغم إدراكي بأنه لا توجد حكمة بأثر رجعي، ورغم تقديري لكل أسلافي من الدبلوماسيين العظام، فأنني كنت أحيانًا أشعر بالدهشة لأنهم لم يلتقطوا تلك الإشارة أو تلك، أو أنهم لم ينتهزوا فرصاً بعينها .. 

وبالطبع قد غاب أغلب هؤلاء عن الحياة، وقليل منهم من وجد وقتاً في نهاية العمر كي يخط بعض سطور عن ذكريات عامة أو مواقف تبتعد عن العمل الدبلوماسي بمفهومه الحرفي، كما أنهم لم يعتادوا أن تكون كلماتهم التي حملتها الشفرة ذات يوم سطوراً يمكن أن تخلع عنها السرية، أن أغلبنا -كدبلوماسيين - يعيش ويموت وهو يقبض علي تلك المعلومات ككنز ثمين دفين غير مسموح الإقتراب منه أو التصوير.. ولذلك صادفتني مشاكل كثيرة في البحث عن دوافع بعض المواقف علي الجانب المصري، فلا توجد مذكرات تفسيرية أو تحليلية إلا فيما ندر، وأظن أن الفترة التي تناولها البحث شهدت سيطرة كاملة من رئيس الدولة جمال عبد الناصر علي عملية التفاوض بشكل عام، بحيث يصعب التوصل إلي موقف تم بناؤه أو تحرك سبق أن وضعت خرائطه.. ولعل ذلك يفسر بعض الإرتباك في المواقف المصرية بشكل عام.

لا بد أيضاً أن أعيد التأكيد علي أن الهدف الأساسي لم يكن مجرد تأريخ أو مجرد سرد لوقائع هامة تم الكشف عن جوانب جديدة لها، كما أنني لم أهدف فقط إلي تسليط الضوء علي جهود بعض الشخصيات في مؤسسة الدبلوماسية المصرية العتيقة حتي لا تضيع جهودهم ويغمرها تراب النسيان، وإنما بالإضافة إلي كل ذلك، وربما قبل كل شيئ آخر كان الهدف الجوهري تعليمي بالدرجة الأولي، طامحاً في أنه ربما يري أجيال من الدبلوماسيين المصريين والعرب أو غيرهم فائدة ما في مراجعة تلك المباراة الدبلوماسية التي دارت تحت ظلال المدافع.
-----------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق
( فقرات مقتطعة من المقدمة في كتابي – تحت النشر -  " دبلوماسية السويس " )


مقالات اخرى للكاتب

قناة السويس .. نبوءة حكماء دلفي !