إلا إذا ماذا؟! إلا إذا اشترى شقة أو فيللا بالتقسيط في مشاريع الحكومة العقارية الاستثمارية.. الحكومة وفّرت البدائل لمستأجري العقارات القديمة، وقدمت إليهم ما لم يحلموا به من تسهيلات.. فوائد ودائع مرتفعة، قروض عقارية طويلة الأمد.. تقسيط .. مدارس، ومراكز طبية، وجوامع وأسواق تجارية، مواصلات.. وألغت قانون عبد الناصر بمنع التمليك لغير المصريين، وفتحت كل أبواب التجنيس.. والله ما قصرت يا حكومة في استثمار أراضينا.. وأمام ضعف إقبال الطبقة المتوسطة؛ لأنها بالكاد تغطي مصاريف طعامها، وساكنة مع أهلها ببلاش من 60 سنة، لجأت للخطة (ب) التهديد بإصدار قانون تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر.. وانفتحت مواسير إعلام المرتزقة تلاعب الطرفين، وتضخّ إعلانات عقاراتك الاستثمارية .. قنوات هدفها التريند والتسويق لمشتاقي الشهرة، وهات يا فتى، وتقليب أوجاع، كمصائد رفع دعاوى الطرد لأن الحكومة لن تصدر القانون!! لخوفها من غضب آلاف احتلوا وأورثوا أملاك غيرهم برضاها!!
الموقف اختلف اليوم؛ لأن الحكومة دخلت بيزنس الاستثمار العقاري، ولا بد من البيع، والربح، وتأمين أملاكها التي هي ملكية عامّة للشعب، ربما حاسبها يوما!! بالاضافة إلى المكاسب الفورية لوزارة المالية؛ من تحصيل ضرائب مستدامة على عقود الإيجار بالسعر السوقي، أو البيع لنفس المستأجر وفق التنازل عن ثلث قيمة العقار كما طرح الفتايون!! وإذا فرضها القانون الجديد، ستصبح الحكومة شريكًا في جريمة اغتصاب حق الملاك سابقًا ولاحقًا.
وأرى أنّ المستفيد الوحيد من إعلان حكم الدستورية ببطلان ثبات الأجرة وامتداد التوريث؛ هي تجارة الاستثمار العقاري للحكومة.. أمَّا المُلّاك فأتوقع عودة لافتة للإيجار.. ولتفتح وزارة العدل خزائنها، وأعتقد أنّها استعدت مسبقًا برفع الرسوم على كلّ من يهوب ناحيتها، ولو بإعلان أو إنذار!!
مماطلة الحكومة
بكل ارتياح مش أسف، أحكي لكم حكاية شخصية، مطابقة لمئات آلاف مثلها في كل عمارة في مصر.. قبل النكسة فاز والدي بقطعة أرض من شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير في الامتداد الصحراوي شرقًا، من خلال جمعية المحاسبين بنقابة التجاريين.. الشركة والجمعية كانا الضامنين لقروض البنك العقاري؛ تشجيعًا لتعمير مساحة شاسعة خالية تمامًا.. مزروع بها أعمدة إنارة مرقّمة منزوعة اللمض، فقط للمساعدة في تحديد موقع كل الأرض.. خلفنا مستشفى هليوبوليس، وأمامنا 50 فدانًا لإنشاء نادي الشمس.. نجح والدي في تشييد دورين سوبر لوكس بمقاييس زمانها.. حدثت النكسة، وبدأ تهجير أهالي السويس.. سكنت أول شقة أسرة مُهجرة، وعروسان بالشقة الثانية أرضي.. ونحن في الدور العلوي.. قانون عبد الناصر فرض لجنة من الإسكان؛ لتحديد قيمة الإيجار حماية للمستأجر.. نجح والدي العصامي بجهد وتضحيات في تسديد القرض، والارتفاع ثلاثة أدوار، أجّرها مؤقتًا - كما تصور- لتأمين سكن لنا مستقبلًا.. أحلام!!
كنا خامس عمارة في صحراء، فراغ ممتد يصل إلى مطار القاهرة.. حتى ارتفعت عمارات واكتملت الخدمات، زرعت الشركة المساحات العريضة وسط شوارعنا بتنسيق راقٍ.. وتكفلت كل عمارة بتشجير محيطها الداخلي ورصيفها.. ننتظر عمّ عبادي الجنايني كل جمعة، تتدلّى زهور شجيرات اللانتانا على الأسوار، جاذبة الفراشات والعصافير.. عشنا عائلة جيران تربطنا تفاصيل ومحبة.. خمسة وخمسون عامًا تزوج فيها الأبناء وانفصلوا، وأغلب الكبار رحلوا.. فماذا تبقى!!
لصوص في حماية قانون فاسد مخالف للدستور، جمدته الحكومة لمصلحة استثمارها العقاري!! سنوات طالت والحكومة تتلاعب بوعود تحرير العلاقة الإيجارية، فأدرك المستأجرون أنها تهدد فقط؛ لإكراههم على تعمير مدنها الاستثمارية الجديدة.. فأحجموا عن ترك شقق ببلاش، مقابل الاستدانة لشراء سكن في الصحراء.. ضاعفت الحكومة إعلانات عرض أملاكها وتسهيلاتها، قروض ميسرة، بيع وإيجار!! ترغيب وتهديد بإصدار القانون، احتشدت له أبواق إعلامية مفضوحة، تستضيف مثيري قلق المستأجرين؛ لتحفيزهم ببرامج جدلية، تقطعها إعلانات مدن الحكومة الساحرة!! وغالبًا زيت الحكومة في دقيقها، يعني إعلاناتها في بيتها بلا مقابل، لكن ارتفاع نسبة المشاهدة بيزنس يضاعف شهرة الضيوف ورصيد القناة!!
أقف هنا أمام مأزق حكومة، سمحت باستمرار فساد دستوري غير مسبوق ولا في الصومال!! أفرز انهيارًا أخلاقيًّا، وتفسخ علاقات اجتماعية!! فساد أفرز محامين مرتزقة، محترفي تزوير محاضر وأوراق ورشاوي شهود، أي تستيف أوراق تمكين ورثة المرحوم المستأجر بحكم محكمة!! فساد أفرز مستأجرًا يقول للمالك: تدفع كام وأسيبلك شقتك!!
شقق مغلقة على ذكريات جميلة، تبدلت إلى حزن من توحش الطمع!! طلبت من جارة العمر العزيزة تسليمي شقتنا المغلقة بعد استقرارها بعيدا سنوات.. أحالتني لابنها رجل الأعمال الشاطر، بدأ المساومة بأربعمئة ألف!! وبعد ثلاث سنوات قالت "الشقة اليوم تساوي ملايين، نصيبنا فيها التلت بالقانون المنتظر"!! أما آخر ورثة مهجري النكسة، فقد أغلقوا الشقة بفرشها منذ أربع سنوات، وانتقلوا لأملاكهم الفاخرة.. وضبطوا للمحكمة فواتير الكهرباء والمياه وشهود الزور!!
المستأجر الثالث والرابع نصحهما نفس المحامي الفاسد، بتأجير مساحة ركن سيارة أمام العمارة!! لأن المحافظة بتحب الفلوس وهتوافق!! أحدهما يدفع الإيجار من 40 سنة في المحكمة!! والآخر غير مقيم مع والدته ويشغل منصبًا رفيعًا، وله سكن أفضل تزوج فيه!!
***
دخلت الحكومة قطاع الاستثمار العقاري وهي مفلسة، إلّا من تطلعات إصلاحية لتخليد ذكراها!! حكومتنا شيّدت مدنًا ومساكن لأثرياء الشرق الأوسط وجموع المصريين المفلسين.. ثم كأي تاجر رأسمالي، واجهت ضعف إقبال الجموع بالتهديد والترغيب.. هددت بإصدار قانون تحرير العلاقة الإيجارية بين ملاك العقارات القديمة ومحتليها بالوراثة!! وفتحت للمحتل قروضًا عقاريّة، بشروط لطيفة، وضمانات قانونيّة لحقوق ملكيتها.. الحكومة استنفرت الشباب للتمليك، وعشمت ورثة الملاك بالعدل!!
في ثوانٍ من عمر التاريخ، ارتفع مؤشر الرأسمالية وتبدلت ملامح المجتمع.. خريجو التعليم الخاص بكليات القمة ركنوا شهاداتهم، وتهافتوا على مهنة "Reel State" - "مطور عقاري" المستوردة بديلًا للسمسار أبو جلابية.. يطاردونك بذكاء طبيعي واصطناعي، يأسرونك في نومك وصحيانك، مع دعم حكومي، مشروط بتنازلات لصالح مستأجر في حمايتها حتى ينتقل إلى أملاكها!! الحكومة تتاجر الآن بالطرفين!! مستأجر مهدد بالإخلاء، ومالك يائس!!
الحكومة شيّدت مدنًا سكنية جديدة في الامتداد الصحراوي، وفّرت مساكن بديلة تكفي شعبًا بجميع طبقاته.. من الاستوديو.. للريف الأوروبي.. لناطحات الامارات!! سكن استثماري بالشراكة مع الحكومة، تمليك وإيجار مفروش وخالٍ، تقسيط بضمان البنوك.. وفق قانون يؤمن للدولة حقوقها كمالك!! وظلت تماطل في إصدار القانون لحين يستوي المالك فيقبل أي شرط يرجع له ولو نصف حقه في أملاكه!! ويستوي المستأجر غير المستحق لامتداد عقد الإيجار القديم من الرعب، ويحلم الشباب - العاجز أساسًا عن توفير الطعام لأسرته - بأن يصبح مالكًا لشقة جديدة (ولو بتقسيط يمصّ دم مرتبه) كل شبابه، ويضاعف أرباح البنوك، ويعمّر الصحرا.. خطّة مزدوجة الربح للحكومة؛ لأنّ المالك مطالب بدفع ضرائب عن القيمة الإيجارية السوقية التي ستحددها له الحكومة.. والمستأجر الذي أصبح مالكًا دخل فئة الملّاك دافعي الضرائب!!
شربات يا حكومة، لكن للأسف ملاك العقارات القديمة، طول الظلم أصابهم بداء السكري فزهدوا السكر، وبالمثل كل من اقترض هو وأهله لتوفير مقدم التمليك في أملاككم.. ومن شارككم التهام الضحايا هم وزارة العدل، ومحامون تحت السلم.. قضايا مظالم الملاك تملأ خزائن وزارة العدل رسومًا، وكروش محامي تحت السلم لحومًا.. تزوير مستندات إقامة أحفاد ورثة مستأجر العقار القديم، أسهل من شراء ذممهم!! مئات آلاف شقق مغلقة ليس للاحتياج؛ بل لمساومة المالك!! تدفع كام وأسيبلك شقتك!! والتسريبات تهدد بأنّ القانون سيمنح المستأجر الحق في ثلث القيمة السوقية للشقة؛ للإسراع في الخلاص واستعادة الأملاك؛ لأن حكومتنا يومها الآن بعشر سنوات!! تتمهل لتتسلم الفرائس مستوية!! مالك يستسلم ويستعيد ميراثه بشروط المستاجر!! فيستعيد كرامته، ويسدد ديونه، وفواتير الصيدلية والكهربا والغاز والمياه، وينقذ بيته قبل انهياره.. ومستأجر يحتمي بقانون فاسد، يمنحه حقَّ استمرار نفس قيمة إيجار شقة لمدة ستين عامًا!! وحكومة تتغابى لحين توفيق أوضاع استثماراتها!!
أرى القادم أشدّ ظلمًا، أرى الملاك ضحايا لأطماع الحكومة.. أرى عودة لافتة للإيجار عريضة على واجهات العمارات القديمة.. لأنّ التمليك في المدن الجديدة بالكوم، وكومباوندات الريف الأوربي استثمار وأبهة.. لن يتمكن من دفع الإيجار بعد تحريره وفق تسعير الدولة، إلّا فئة ضئيلة قادرة أو عاجزة عن ترك مسكنها لأسباب مختلفة.. والخلاصة: أنّ الحكومة هي الرابح الأعظم في جميع الأحوال!!
أتذكر هتافات الطلبة بعد صدمة النكسة في 68..انفجرت مظاهرات الغضب من انكسار الوطن والحلم .. من احتلال إسرائيل للضفة الغربية، وغزة، وسيناء، والجولان، شعب يحب عبد الناصر ومرعوب من نظام أمني، يقهر المعارضة بلا رحمة.. ابتدع المثقفون والشعراء هتافًا للمتظاهرين يحمى الأبرياء وهو "سبيرو سباتس خان الشعب".. سبيرو كان مستشار الرئيس الأمريكى ليندون جونسون.. ويمثل السياسة ألأمريكية في الشرق الأوسط، التي مكنت إسرائيل من احتلال الضفة الغربية، وقطاع غزة، ومرتفات الجولان، وشبه جزيرة سيناء.. مناطق حدودية شاسعة في مصر وسوريا والأردن.. انتصار ساحق لإسرائيل في ستة أيّام فقط صدم العالم العربي كله، وهز الثقة بعبد الناصر، وهو هدف أمريكا!! خرج الطلبة في مظاهرات غضب تطالب بمحاسبة المسؤولين، قابلتها الدولة بقمع الحريات.. رقابة، واعتقالات، وتعذيب، سجلته أفلام مصرية خالدة.. فترة سوداء امتدت لحكم السادات تاركةً ندوبًا في روح وجسد الوطن.. هتاف "سبيرو سباتس" ابتدعه المثقفون والشعراء لحماية المتظاهرين شبابًا وطلبة.. منهم: صلاح جاهين، ويوسف إدريس، ومحمود درويش، وأمل دنقل؛ للتنديد بأطماع أمريكا وإسرائيل في الشرق الأوسط .. وكان مشروب "سباتس" كناية عن شخص عبد الناصر؛ لأنه المشروب الأشهر والأحب للمصريين!
ما سبق هو تذكرة للحكومة د. مدبولي؛ لأنّ التاريخ لا ينسى.. والدستور يٌجرٍم الظلم.. ثبات القيمة الإيجارية للعقارات القديمة ستين عامًا هي خيانة عظمى.. هي جريمة، انبثق عنها جرائم استغلال، وتزوير، ورشاوى، وانحرافات محامين؛ لتمكين المستأجر وورثته من سرقة ميراث الملاك!!
------------------------
بقلم: منى ثابت