من المُفارقات الغريبة أنه كان وما زال بيني وبين اسمي تضاد، فبرغم نسبتي للصبر، إلا أنني لم أعرفه، ولم أُرَبَّ عليه، وهذا ما أجّج خصومة - برغم تفوقي في مراحل دراستي الأولى - بيني وبين المُقرر الدراسي على الدّوام.
إلا أنّ الأمر كان مختلفًا تمامًا مع القراءات الحرَّة، فقد كان بيني وبينها ألفةّ وانسجام يصل إلى حد الهيام.
لم يختلف عزوفي عن مذاكرة المقرر الدراسي، عن عزوفي عن محاضرات أساتذة دار العلوم، وحقًّا: من شبّ على شيء شاب عليه.
وفي المرَّات القليلة التي حضرتها بدار العلوم، كانت لي مواقفُ مُضحكة، وذكرياتٌ لا تُنسى، منها: أنّ عميد الدار وكبيرَها العلامة محمد بلتاجي حسن، خرج يومًا لإلقاء محاضرة بأحد المدرجات، فمرّ بشاب وفتاة، وقفا في مكانٍ قصي بعيدٍ عن زحام الطلبة، يتبادلان أطراف الحديث، الذي كان ذا شجون، دون أن يُعيرَهما - أقصد العميد - اهتمامًا.
دخل العميدُ المدرج وألقى محاضرة، استمرت ساعتين، ثم خرج يُوسع الخطى نحو مكتبه؛ ليلتقط أنفاسه، قبل ولوج مدرج آخر لإلقاء محاضرة أخرى، فوجد الشابَّ والفتاة ما زالا واقفين على نفس الهيئة، فتركهما وشأنهما، وأوى إلى حجرة مكتبه، ثم خرج ليُلقي محاضرته الثانية، فإذا بالشابّ والفتاة على نفس الهيئة، وبالكيفية نفسها.
فرمقهما العميد، وأوى إلى مدرج المحاضرة، التي مكث بها ساعتين أخريين، ثم خرج، ففوجئ بالشاب والفتاة واقفين مكانهما، فلم يُعرهما اهتمامًا رغم غيظه، الذي كظمه، ودلف إلى مكتبه يحتسي فنجانًا من القهوة، قبل الخروج لمحاضرته الثالثة، وفي طريقه إلى المدرج أدهشه رؤية الشاب والفتاة في نفس المكان، فانطلق نحوهما، بعدما بلغ السيلُ الزبى، فما إن رآه الشابُّ، حتّى ولَّى مدبرًا ولم يعقب، بينما وقفت الفتاةُ مكانها، كمريب يقول خذوني، تتمنى أن تنشق الأرضُ وتبتلعها.
اقترب منها العميد وسألها: أكثر من 5 ساعات وأنتما هكذا فماذا تقولان؟
قالت الفتاة بصوت لا يكاد يبين: "كنت أرهف له السمع؛ لأنَّه سيتكلم عليّ".
هنالك ضرب العميد كفًّا بكفّ، واستنكر: 5 ساعات (لت وعجن) لمجرد أنه سيتكلم عليك! فماذا ستصنعان بعدما يتكلم عليك بالفعل؟
وفيما هو مستغرقٌ في دهشته، مرّ عليه العلّامة د.عبد الصبور شاهين، فسأله العميد قائلًا: يا شيخنا، أعملُ أستاذًا ورئيسًا لقسم الشريعة، منذ سنوات، ولم أسمع أنّ هناك مرحلة من مراحل الزواج اسمها: (سيتكلم عليّ)، فهل عَرضتْ لك هذه المرحلة، أو وقفت عليها في كتب السابقين؟
فأجابه العَلَّامة شاهين بظَرْفه المعهود، وخفة ظله، التي كانت حديث القاصي والداني: نحن - يا دكتور بلتاجي - في زمن تجديد الخطاب الديني، الذي تعددت فيه مراحل الزواج بعكس أيامنا، فصار منها قبل الخِطبة: (ها يتكلم علي، وداير حافي حولي، و(سايق طوب الأرض عليّ) - كناية عن كثرة الوسطاء -، و(بايس أم رجلي)، و... إلخ.
هنالك هزّ العميدُ رأسه وقال: أي نعم، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، نعم إنَّه تجديد الخطاب الديني!
وأنشد يُرددُ قولَ جميل:
أيا ريحَ الشَّمالِ، أما تَريني أهِيمُ وأنني بادي النُّـحُولِ؟
هَبي لي نـسمَـةً من ريحِ بُثنٍ ومُنّي بالـهبوبِ على جـمـيــلِ
وقُولِي: يا بُثينَةُ حَسبُ نَفسِي قَليلُكِ، أو أقَلُّ مِنَ القَلِــيـــلِ.
فرحم الله العميد د. محمد بلتاجي حسن، الذي تمر اليوم ذكرى وفاته الحادية والعشرون، بيد أنه فارق دنيا الناس في السادس والعشرين من أبريل ٢٠٠٤م.
----------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام