في لحظة تاريخية جمعت قادة العالم وزعماء الكنائس المختلفة لتوديع بابا الفاتيكان الراحل، البابا فرنسيس، غاب عن المشهد الحزين صوت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حين تغيّب قداسة تواضروس الثاني عن حضور مراسم الجنازة الرسمية التي أقيمت في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان يوم السبت 26 أبريل 2025.
وبرغم العلاقات الوثيقة التي امتدت لسنوات بين الكنيستين، والتي توّجت بلقاءات حميمية بين البابا تواضروس والبابا فرنسيس، خصوصًا خلال زيارة البابا تواضروس إلى الفاتيكان عام 2013 ثم عام 2023، بدا الغياب هذه المرة لافتًا وصادمًا للكثيرين. اكتفت الكنيسة القبطية بإرسال ممثل عنها، الأنبا برنابا أسقف تورينو وروما، وهو ما اعتبره كثيرون تقليلًا من قيمة الحدث وعدم تقدير كافٍ لحجم ومكانة الراحل على الساحة الدينية العالمية.
رسائل مختلطة... وتفسير مقلق
رغم أن بعض المصادر الكنسية حاولت تفسير الغياب باعتبارات بروتوكولية أو ارتباطات سابقة داخل مصر، إلا أن المراقبين رأوا أن تغييب رأس الكنيسة الأرثوذكسية الأكبر في الشرق الأوسط عن جنازة بابا الفاتيكان يحمل في طياته رسائل سلبية.
فالبابا فرنسيس لم يكن مجرد قائد كنسي، بل كان رمزًا لحوار الأديان والانفتاح العالمي، وأحد أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق المسيحيين في الشرق الأوسط، وعلى رأسهم أقباط مصر. فكيف تُفهَم مقاطعة رأس الكنيسة المصرية لمراسم وداعه؟
مفارقات صارخة بين الغائبين والحاضرين
مفارقة أخرى زادت من حدّة الانتقادات؛ فقد شهدت الجنازة مشاركة رفيعة المستوى من جانب الدولة المصرية، ممثلة في الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف، إلى جانب وفود من الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف.
وهو ما جعل البعض يتساءل: إذا كانت الدولة المصرية نفسها قد اعتبرت أن حضور الجنازة واجب سياسي وديني، فكيف للكنيسة القبطية، وهي الشريك الطبيعي للفاتيكان، أن تكتفي بتمثيل رمزي؟
صورة مشوشة للوحدة المسيحية
لم يكن تغييب البابا مجرد غياب جسدي عن جنازة؛ بل حمل دلالات أعمق تمس فكرة "الوحدة المسيحية" التي طالما دعا لها البابا فرنسيس. في لحظة كان يُنتظر فيها أن تقف الكنائس الكبرى صفًا واحدًا لتوديع الرجل الذي مد الجسور بين الشرق والغرب، بدت الكنيسة القبطية وكأنها تغرد خارج السرب، أو على الأقل، اختارت أن ترسل إشارات غير محسوبة للعالم المسيحي.
لا تُستبعد تأثيرات هذا الغياب على العلاقات المستقبلية بين الكنيستين. فرغم الاحترام المتبادل الطويل، إلا أن الرمزية في العلاقات الدبلوماسية والدينية تلعب دورًا حاسمًا، خاصة مع باباوات الفاتيكان الذين يعطون أهمية قصوى لكل إشارة دبلوماسية.
وقد يؤثر هذا الموقف بشكل غير مباشر على ملفات مشتركة كان يُنتظر من الكنيستين التعاون فيها، مثل قضايا المسيحيين في الشرق الأوسط، والحوار المسيحي-الإسلامي العالمي.
إن تغييب البابا تواضروس الثاني عن جنازة البابا فرنسيس، في عيون كثيرين، لم يكن مجرد تفصيل بروتوكولي يمكن تجاوزه، بل كان قرارًا يفتقر إلى الحساسية السياسية والروحية اللازمة لمثل هذه اللحظة. وفي عالم باتت فيه الرموز والرسائل أهم من الكلمات، قد يكون الصمت أحيانًا أبلغ من الحضور... لكنه في هذه الحالة، كان صمتًا محيرًا ومؤسفًا.