تابعت على مدار حياتي كناقد سينمائي وكاتب صحفي آلاف الأفلام الروائية والتسجيلية في صالات العرض وخلال وجودي بلجان المشاهدة والتحكيم وإختيار الأفلام لأكثر من ربع قرن، سواء بمهرجان القاهرة السينمائي او الإسكندرية أو الإسماعيلية التسجيلي، وغيرها من المهرجانات الدولية والمحلية في الداخل والخارج، وإنبهرت كغيري من زملاء المهنة بمستوى العديد من الأفلام التي إعتبرناها تحفا وكلاسيكيات ليس على المستوى الفني فقط ولكن من خلال المضمون الذي يقدم، وكان هناك في مناسبات عديدة أقسام لأفلام المقاومة كانت تجتهد في محاكاة أو تسجيل لحظات مهمة في تاريخ الأفراد والشعوب لمقاومة المستعمر او المحتل، وكان من هذه الأفلام بالطبع أعمال خالدة وبارعة في تسجيل الأحداث ومنها أعمال تتعلق تحديدا بالتهجير وعصابات الهاجاناه الصهيونية وشتيرن والأرغون، في اسوأ إرهاب وإحتلال حدث ولا يزال في التاريخين الحديث والمعاصر.
وأخيرا تابعت كغيري على مدار أكثر من ١٩ شهرا أفلام المقاومة الواقعية التي شاهدناها جميعا على أرض غزة الأبية بكاميرا المقاومين تصويرا وإخراجا وأداءا ،صوتا وصورة مع موسيقى تصويرية أحيانا، وهي أفلام غير مسبوقة ولم تحدث في أي حرب حديثة بعد أن صارت التكنولوجيا والدعاية المصورة جزءا رئيسيا من الحرب المعنوية والتأثير السياسي في المعارك.
وقد برعت المقاومة في إستخدام أدواتها بحرفية منقطعة النظير وغير مسبوقة بالفعل، سواء خلال المعارك والإنتقال مابين الأنفاق وإستخدام المسافة صفر، او خلال مشاهد تبادل الأسرى التي قامت خلالها بإستعراض نفوذها وسيطرتها على الأرض، رغم الإمكانات المتواضعة أمام جيش مدجج بأحدث وأعتى الأسلحة وجسور جوية وبحرية ودعم من قوى عظمى وتابعة وخائنة، ناهيك عن المشاهد الإنسانية وحالة الود والتعاطف الشديدين مابين بعض الأسيرات والأسرى مع المجاهدين أصحاب الأرض المحتلة، وكلها مشاهد كان لها دوي، وكان لها وقعها الذي قلب الطاولة السياسية، وغير معادلة التعاطف وفهم أبعاد القضية أمام العالم المتحضر والمتخلف على السواء.
وأقر وأعترف أنني وبحكم خبرتي وتجربتي السينمائية والحياتية، ولا أقول الصحفية أيضا، لم أشاهد مثل هذا المستوى الحرفي والفني المبهر من قبل.. فنحن أمام فيضان سينمائي تسجيلي شديد الحساسية والإتقان، كل لقطة وكل مشهد يحتاج إلى دراسة وتعمق مع الأخذ في الإعتبار توقيت العرض وظروف التصوير تحت خط النار، ناهيك عن غرف المونتاج والمكساج داخل الأنفاق، وهي حالة لم نعرفها قبل ذلك، ولم يسبقها أعمال فنية وبطولية إستطاعت إحداث كل هذا الزخم على كل الأصعدة، رغم الآلام التي تحاصر أبعاد المشهد وتوقظ الضمير الإنساني الحر لدى من لايزال لديهم ضمير،وإنصاف.
لقد أدرك صناع سينما "طوفان الأقصى" التي صاغتها كاميرا وبندقية، من أبطال ومبدعين من طراز فريد، أنه لا غنى في العصر الحديث عن تلك المتلازمة، "البندقية والكاميرا" فأحسنوا استخدامها، وتفوقوا على آلة الإعلام الصهيوني الذي غسل الأدمغة لعقود طويلة بأفلام زائفة عن التفوق، وأخرى مسيئة للشعوب والأغيار مستخدمين كل المنصات العالمية من صحافة وإعلام ومواقع تواصل لتخريب العقول وتشفيرها، ومن خلال هذه الثنائية تغيرت معادلات كثيرة، وستتغير معادلات آخرى مع الإصرار على صدق المقاومة، ونصاعة صفحاتها، وبراعة إستخدامها لمتلازمة "البندقية والكاميرا" في مواجهة طوفان الزيف والإرهاب الذي حاصرنا لعشرات السنيين...وما زال
-------------------------
بقلم: هشام لاشين