في اجتهادي أن العلم يمكن أن يكون فتنة عندما يظن المرء - أيا كان علمه - أنه يستطيع أن يصل إلى الحقيقة، أو إلى الصواب، بعقله البشري، بجهده وإعمال عقله فقط، متناسيا، بل وربما متغافلا، أن أول مايصيب المرء في اجتهاده اعتماده على عقله فقط، فتجد أنماطا من البشر تتحدث عن نفسها، ولسان حالها تجسيدٌ لحالة من الأنا لا مزيد عليها من التعصب للذات، وكأن المولى سبحانه وتعالى لم يخلق من قبلهم من هم أفضل منهم علما، بل وكانوا يتمتعون بقبول شعبي منقطع النظير.
ومن هذه الأنماط التي ينظر إليهم في علمهم بأن العلم فتنة، من يقول قرأت مايقرب أو يزيد على مائتي وخمسين ألفا من الكتب، أو ألفت مائة كتاب، وأكثر من ثمانمئة بحث منشور.
الفتنة هنا لاتقل - في اجتهادي - عمن قال (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) وهو أول الظلم للنفس. الفتنة هنا تصيب صاحبها بحالة من الفرعنة العلمية، ولا يبقى له إلا أن يقول (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي)... أليس لي من الكتب والبحوث.. مازاد على... كذا... ألم أوت هذه الكتب والبحوث على علم مني.... أو (إنما اوتيته على علم عندي).
وينسى هؤلاء جميعا - هم ومن على شاكلتهم - أن العلم فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده، وكل يأخذ منه بمقدار ما يأخذه الطائر من شربة ماء في نهر، وأن الأصل في الزيادة في العلم وبركته تقوى الله سبحانه وتعالى، وهو القائل... (واتقوا الله ويعلمكم الله) وأن في الجسد مضغة إذا صلحت، صلح الجسد كله، بكل ما يتبع هذا الجسد من اجتهاد بدني وعقلي لن يكتب له النجاح والتوفيق مالم يتبعه اجتهاد من القلب، واليقين بأن الوصول إلى المعرفة والعلم ليس بالعقل فقط.. وأن نقاء القلب وصلاحه له دور كبير في الوصول بالعلم إلى علم اليقين، وحق اليقين. وفي هذا مايباعد بين المرء وبين الشطط والتطرف في الرأي.
ولا يعني ذلك أني اغفل قيمة العقل ودوره، فالعقل أساس الدين، ولادين لمن لا عقل له، حيث تسقط عنه التكاليف، فقط هذا العقل في حاجة إلى إشراقات القلب ونور الإيمان فيه، ففيه الحماية من شطط العقل... لايعني ذلك أني أحكم على أحد بعينه، وأعترف بأننا جميعا نخطيء ، لكن هناك فرقا كبيرا بين الخطأ.. الشطط... والتطرف.. وتجاوز الثوابت.
ثم ماذا يضير المرء إذا ما اتخذ من السلف الصالح قدوة له في طلبهم للعلم، وهم العلماء حقا، - فقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يسأل في خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يسأل في المسألة فيقول لا أدري، فيقال له إنها مسألة خفيفة، فيغضب ويقول.. ليس في العلم شيء خفيف...، ناهيك عن أن الأمثلة في ذلك متعددة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي صدر الإسلام
وماذا يضير العالم لو قال دعني أبحث هذه المسألة أو دعني أقرا عنها، وقد أصبحت من أمنياتي أن أجد هذا النموذج في حياتنا العلمية المعاصرة.... وأسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا... ونستعيذ به سبحانه من قلب لايخشع، وعلم لا ينفع........ فالعلم أمانة..... والكلمة أمانة، فهلا تاملنا قول الحق سبحانه وتعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا).
-------------------------
بقلم: د. عادل يحيي
* أستاذ التاريخ الإسلامي