30 - 04 - 2025

سيناء: المثلث الذهبي بين التاريخ والتحرير والمستقبل

سيناء: المثلث الذهبي بين التاريخ والتحرير والمستقبل

في الخامس والعشرين من أبريل، لا نحتفل فقط بذكرى تحرير الأرض، بل نُعيد إحياء علاقة روحية وجغرافية بأرضٍ لها في كل ذرة من ترابها قصة، وفي كل شبرٍ منها دلالة. سيناء، تلك الرقعة الفاصلة الواصلة، مثلث من ذهب بين قارات وأديان وتاريخ طويل من الألم والمجد والآمال الكبيرة في المستقبل.

سيناء، هذه الأرض التي خاضت مصر من أجل استردادها حربًا ضروسًا ثم تفاوضًا صعبًا، وستخوض كل الصعاب إن اضطرت لذلك من أجل حق الأرواح التي زهقت على أرضها، وأبناء خرجوا إلى الحياة يقال لهم "أبوك استشهد هنا، دمه سال هنا!"، تحرير سيناء لم يكن مجرّد استعادة جغرافيا، بل كان استعادة للكرامة، عبر معركة أكتوبر المجيدة، والدبلوماسية الصبورة، أعاد المصريون أرضهم شبراً شبراً، فصار يوم 25 أبريل موعدًا، تتقاطع فيه دماء الشهداء بمداد الدبلوماسيين. لهذا سيناء تجاوزت كونها أرضا أو مكانا، صارت وجدانا، أغلى من أي نفيس، سيناء لا تقدر بثمن. كما جاءت رسالة مصر صريحة واضحة: سيناء ليست للإيجار.

لا تزال سيناء تختزن طاقات لا نهائية من الإمكانات، وكأنها تُهدي الوطن في كل ذكرى تحريرٍ مفتاحًا جديدًا لباب لم يُفتح بعد، تقع سيناء عند ملتقى قارتي آسيا وإفريقيا، وتربط بين البحرين الأبيض والأحمر، وتُشرف على قناة السويس، الشريان الملاحي الأهم عالميًا. هذا الموقع الجغرافي جعل منها – تاريخيًا – هدفًا ومطمعًا، لكنه أيضًا منحها القدرة لتكون جسرًا حضاريًا واقتصاديًا وسياحيًا بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب.

تقف سيناء كأنها يد تمتد بين القارات. ساحةٌ عبرها المصريون القدماء في تجارتهم، وفي حملاتهم لصد الهجوم والاعتداءات، ومنها نزلت الديانات السماوية، وعليها مرّ الأنبياء، ودار حولها صراع طويل على مرّ العصور. مساحة شاسعة تقترب من 61 ألف كيلومتر مربع، تشكّل قرابة سدس مساحة مصر، ومع ذلك ظلت كثيرًا ما تُعامل كطرف بينما هي القلب.

سيناء ليست فقط صحارى وجبال، بل هي كنز جيولوجي وزراعي وسياحي. تحتوي على مناجم للفحم والمنجنيز والفوسفات والنحاس والذهب، بالإضافة إلى رمالها البيضاء التي تُستخدم في صناعة الألياف البصرية والخلايا الشمسية. كما تنتشر بها العيون الكبريتية والينابيع الطبيعية؛ التي تؤهلها لتكون وجهة سياحية علاجية عالمية.

سيناء كنز لا يزال في طور الاكتشاف، سيناء ليست فقط مكانًا ذا رمزية، بل هي مصدر ثروات قلّ أن تجتمع في بقعة واحدة، الرمال البيضاء التي تُصدر للعالم وتُستخدم في صناعة الزجاج، المناجم الغنية بالذهب والمنجنيز والنحاس. مكان يليق بالسياحة العلاجية في رمال عيون موسى وعيون كبريتية في مناطق مثل حمام فرعون، وحمام موسى وغيرها.

ولا يمكننا أن نتحدث عن سيناء دون الحديث عن المعالم السياحية العالمية، كدير سانت كاترين، وجبل موسى، وشواطئ دهب ونويبع وشرم الشيخ، والزراعات المميزة كزيت الزيتون، والتمر، والنخيل، والتين الشوكي، والأعشاب الطبية النادرة، هذا التنوع البيئي العجيب بين جبال شاهقة، ووديان سحيقة، وسواحل ساحرة، وتنوع مناخي يجعلها صالحة للسياحة في كل الفصول، منح سيناء عن جدارة عبقرية الموقع و فرادته. سيناء بوابة مصر الشرقية، حامية قناة السويس، ورأس الرمح في الدفاع عن الأمن القومي المصري والعربي. هذا الموقع الفريد جعلها دوماً مطمعًا ومحطًّا للصراع، لكنه أيضاً يمنحها خصوصية وواجبًا وطنيًا مضاعفًا في تنميتها.

رغم ما تحقق من مشاريع، ما تزال سيناء في حاجة إلى تنمية تتجاوز الخطط الورقية، تنمية تنبع من إدراك جوهرها، وتستهدف الإنسان قبل البنية التحتية، وتحمي البيئة ولا تفتك بها.

أولى خطوات هذا المستقبل هي تعزيز "مسرح العمليات" وتكثيف "مسرح العمران" تحتاج مصر إلى رؤية متكاملة تعتمد على توزيع سكاني جديد يشجع على الهجرة العكسية إلى الشرق، ويعيد رسم خارطة الكثافة، التي طالما أثقلت الوادي والدلتا. ويمكن لبرامج الإسكان المتكاملة، وتوفير البنية التحتية الذكية، أن تمهد لذلك الطريق.

ولا يمكن تجاهل دور الزراعة المستدامة، فسيناء تمتلك تربة خصبة في مناطق كثيرة من سهولها وأوديتها، ومناخًا يساعد على زراعة محاصيل استراتيجية مثل الزيتون، والنخيل، والجوجوبا، والتين الشوكي، إلى جانب النباتات الطبية والعطرية، التي يمكن أن تُحدث طفرة في الصناعات الدوائية والتجميلية. ومع تقنيات تحلية المياه والطاقة الشمسية، يمكن تجاوز معضلة الموارد الطبيعية بشكل ذكي ومبتكر.

وعلى الجانب السياحي، يمكن أن تتحول سيناء إلى عاصمة السياحة العلاجية والاستشفائية في الشرق الأوسط، إذا ما استُغلت عيون موسى وحمامات فرعون، ورمالها الغنية بالمعادن في مناطق مثل نويبع وسانت كاترين، مع توفير بيئة صحية آمنة، وبنية تحتية تليق بالزوار من كل أنحاء العالم.

وفي ظل هذه الرؤية، لا بد من التركيز على بناء الإنسان السيناوي، عبر إدماجه الكامل في التنمية، وتوفير فرص التعليم والتمكين الاقتصادي، ليكون شريكًا في بناء المستقبل، لا مجرد ساكن على الهامش. فالأمن الحقيقي يبدأ من العدالة والفرص المتكافئة، لا من نقاط التفتيش وحدها.

تُعدّ سيناء نموذجًا حيًّا على عبقرية الجغرافيا التي تصوغ ملامح الهوية، لا بوصفها أرضًا فقط، بل كمرآة للتنوع الثقافي والإثني في مصر. ففي صحرائها الشاسعة وسواحلها الممتدة، يعيش المصري البدوي جنبًا إلى جنب مع أبناء الواحات والصعيد والدلتا ومدن القناة والإسكندرية، متقاسمين طقس الانتماء ذاته رغم تنوّع لهجاتهم وعاداتهم وموروثاتهم. وهذا التعدد الإثني ليس تهديدًا للوحدة الوطنية، بل هو وجهٌ من أوجه ثرائها، وكنز ينبغي الحفاظ عليه، بل والاحتفاء به. إن صيانة/تعزيز هذا التنوع لا تأتي عبر الذوبان في هوية واحدة جامدة، بل في صياغة وطنية حاضنة، تتسع للجميع، وتمنح كل إثنية حق الوجود والتعبير والاعتزاز بجذورها، ضمن مظلة واحدة هي "مصر".

ومن هنا، تتعاظم أهمية الثقافة والفنون والآداب كجسر لهذا التلاقي، وكساحة حرة للتعبير الجمعي. فحين تقام مهرجانات شعرية أو عروض فنية في سيناء، لا تكتفي بإحياء الذاكرة، بل ترسّخ شعورًا عامًا بأن ما يجمعنا أعمق من الجغرافيا وأقدم من السياسة. يمكن للأنشطة الثقافية والفنية في سيناء أن تعيد كتابة حكاية مصر بألسنة متعددة، ولكن بقلب واحد. هكذا تُبنى الهوية المصرية: لا بإلغاء الفروق، بل بتوظيفها في سرد وطني موحد، تلتقي فيه نغمة الربابة مع رقصات البدو، وحكايات النوبة مع أساطير الساحل الشمالي، ويا أبوووي الصعيدي وأحييه الاسكندراني مع عزف السمسمية على القنال، في سيمفونية واحدة اسمها: "مصر".

في عيد تحريرها، لا نكتفي بتهنئة النفس بالاسترداد، بل نتطلع إلى سيناء أخرى: مزدهرة، خضراء، نابضة بالحياة. سيناء ليست فقط رمالًا وجبالًا، بل هي بوابة مصر إلى المستقبل، ومفتاح التوازن الاستراتيجي، وخزان الثروات، وبقعة الصفاء الروحي، وميدان الإمكانات غير المحدودة. فلتكن ذكرى التحرير موعدًا مع الانطلاق، لا وقفة للتأمل فقط.

سيناء ليست مجرد أرض حُررت، بل روح يجب أن تُستعاد. في يوم تحريرها، نحتاج إلى تحرير وعينا بها. أن نراها لا كأرض حدودية، بل كبداية جديدة، كمستقبل يحتضن الماضي لا ليبكيه؛ بل ليواصل كتابته بلغة الحياة والعدالة والكرامة. كل عام وسيناء ومصر كلها بخير وسلام.
------------------------
بقلم: هاني منسي
* كاتب وناقد

مقالات اخرى للكاتب

سيناء: المثلث الذهبي بين التاريخ والتحرير والمستقبل