للطبيعة تأثيراتها على حياة السكان؛ فبينما ينطوي سكان المدينة ويتقوقعوا على ذواتهم، تمتد البادية كتابًا مفتوحًا أرضًا وجوًا. تنظر فإذا العالم مكشوف من ورائك وأمامك، وعن يمينك وشمالك، يُدهشك (ورق حائط) السماء، وتستغرقك تشكيلات السحب والغيوم نهارًا، وتحصي مواضع النجوم ومسارات الشهب ليلاً، وإن لم يخل الأمر من تحديات ندرة الموارد الطبيعية، خاصة إذا اقترنت بطبيعة جبلية، صلدة كالصوان، عصية كجلمود امرؤ القيس، بعد ما حطه السيل من علٍ.
لسلطنة عُمان طبيعة جبلية تفرض نفسها على الحضر والريف، وتثير دهشة الزائر ببديع صنع الخالق في أشكالها وضخامتها، وجميل صنع الإنسان حين شق عبرها الطرق لاختصار المسافات، ونحت على جوانبها أرصفة تنحني مع مسارات الطريق، بينما يسمح كتف الجبل المكسو بِشَبَكْ معدني، بأن تنمو بينه وبين غطاء الشبك نباتات وزهور برية.
ولأن لا حياة من دون ماء، صار عمل القَافِرْ (مقتفي أثر الماء باللهجة العُمانية) من أهم مهن الصحراء، يتقصى مصادره.
عملٌ يحتاج بنية جسمانية قوية ورهافة سمع تسمح له حين يضع رأسه على الصخر أن يسمع خرير الماء فيقتفي أثره، إلى أن يقف عند موضع معين فيشمر ساعديه القويتين، ويتناول مطرقته، ويشرع يضرب رأس الصخر، وقلبه، والجميع من حوله متلهف للحظة تفجر الماء من بين يديه.
انعكست هذه الطبيعة وتلك الصفات على السياسة العُمانية؛ في عام 1979 عارضت عُمان قرار الدول العربية طرد مصر من جامعة الدول العربية، ونقل مقرها إلى بغداد، اعتراضًا على توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد. كانت تُرهف السمع للمستقبل الكامن في جوف صخر الغيب.
وقفت الدول العربية كلها في جانب ووقف السلطان قابوس وحده، وعندما كان أدعياء السياسة يتهمون مسقط ببيع القضية الفلسطينية يأتي الرد هادئًا هدوء الجبال الرواسي؛ "إنها الاتفاقية الوحيدة التي منحت الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا ولن يكون هناك اتفاقًا سواه"، ولأنك لا تستطيع استبعاد قوانين الجاذبية من معادلات الحركة على سطح الأرض، رجعت الدول العربية عن مواقفها، وانتقل العرب إلى ضفة السلطان قابوس، وعادت الجامعة إلى مستقرها ومستودعها في قاهرة المعز.
اليوم تستضيف دواوين مسقط المفاوضات الإيرانية الأمريكية حول البرنامج النووي الإيراني، وهي تعلم أن ابن تاجر السجاد الشهير بتبريز؛ عباس عراقجي الرجل الثاني في وزارة الخارجية، مفاوض بالفطرة، تعلم من تجارة الأجداد وخبرات السياسة ما منحه شهرة واسعة عمادها قراءة أفكار الزبون، واللعب على أوتار الأعصاب، والتحلي بصبر بارد، وإن كان الآتون يغلي بالداخل.
وعلى الجانب الآخر، يتقن ابن خياط معاطف السيدات؛ ستيف ويتكوف، عقد الصفقات حيث أسس مجموعة استثمارية باسمه حققت مليارات الدولارات، أرسله صديقه ليعود إليه –بعد أيام- بمفاتيح البرنامج النووي الإيراني، ولسان حاله يقول (أخبرهم أنهم إن لم ينصاعوا، سقط المعبد على من فيه)، ثم باركه وودعه وتناول شربة ماء.
منذ قرابة عامين، فازت رواية (تغريبة القافر)، للكاتب والشاعر العُماني زهران القاسم، بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها السادسة عشر.
سيرة ذاتية لسالم؛ قافر الماء، إنسان ارتبطت حياته بالماء، ماتت أمه غرقًا وهي حامل به، ولولا تدخل عمتها المفاجئ وإخراجها الجنين حيًا للحق بأمه، وكذلك مات أبوه.
يصنف سالم الماء إلى مياه كريمة، ومياه مخادعة، ويرى فيها مرآة للمجتمع الذي يعيش فيه، في إشارة لقيمة الماء في الحياة عامة، والصحراوية خاصة، مع تضفيرها بتفاصيل اجتماعية لقبائل تعلمت كيف تروض البيئة الخشنة.
تتمتع الرواية بلغة سرد منقوعة في ينابيع ماء الأفلاج، ورذاذ حبات المطر، وتتميز بسرد دائري اختلفت فيه الشخصيات وإن ارتبطت بالماء.
وهكذا يدير قافر الاتفاقيات العُمانيجولات ودورات المفاوضات السياسية بحثًا عن مكامن الاتفاق بين جلاميد صخورالخلاف، يلصق أذنه بالأرض ويرهف السمع متتبعًا وشيش ماء الوفاق، ويتتبع المسار، مطمئنًا، أنه لا شك يصل، إن حسنت نوايا ابن تاجر السجاد وابن خياط المعاطف.
-----------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]