30 - 04 - 2025

"نحن والغرب" | صفحات مطوية في تاريخ الحروب الصليبية وجذور فكرة الأمة العربية

أوضحنا في المقال السابق الانقسامات بين القوى والممالك الأوروبية التي شاركت في الحملات الصليبية على المشرق العربي، وكيف أثرت هذه الانقسامات على سير الحملات وكيف أسس بعض حوادثها، لاسيما المجازر التي ارتكبها الصليبيون، للعلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب، حيث تتقاطع المصالح وتتشابك، على الرغم من حالة العداء والحرب بين الجانبين.

من الملاحظ أن المصادر التاريخية العربية والإسلامية التي تناولت تلك الفترة، تقدم صورة مغايرة تمامًا للسردية التي سادت في العالم العربي الحديث بخصوص صلاح الدين الأيوبي وبطولاته والتي تصوره كموحد للعرب، والبطل الذي هزم جيوش الفرنجة وحرر القدس وبيت المقدس، إذ تتحدث هذه المصادر عن تنازلات قدمها صلاح الدين للفرنجة لكسبهم في حربه من أجل النفوذ والهيمنة في مواجهة منافسيه من القوى الإسلامية. وتكشف هذه المصادر كيف جرى توظيف الصراع مع الفرنجة أو التحالف معهم في حسم التناقضات فيما بين المسلمين.

سنتناول في هذا المقال أحداث هذه الفترة، مستندين إلى المصادر التاريخية، في محاولة للتعامل مع التأويلات التي بدأت بالظهور في المنطقة العربية في مرحلة حديثة نسبيا، تبدأ مع الثورة العربية الكبرى في مطلع القرن العشرين في شبه الجزيرة العربية، والتي تأسست معها أيديولوجية الأمة العربية، التي وظفتها النظم التي حكمت بعض الدول العربية في أعقاب انقلابات عسكرية في الخمسينات، بما في ذلك الانقلاب الذي وقع في مصر في يوليو عام 1952. وتكشف المصادر التاريخية التي تناولت حرب صلاح الدين الأيوبي مع جيوش الفرنجة أن مطامعه الشخصية في تشكيل أسرة ملكية خاصة، وتأسيس الدولة الايوبية، كانت سبباً في ضياع أكبر فرصة امام المسلمين لتحقيق ازدهار ثالث للخلافة العباسية، على نحو يخالف توظيف انتصاره المزعوم في معركة حطين لصنع أسطورة تغذي القومية العربية والإسلامية، وتصوير انتصار الشرق على الغرب كلحظة أسطورية مضيئة في التاريخ، غافلين بها – عن عمد أو عن جهل –  كل التفاصيل الصغيرة المتعلقة بما دار من معارك بين آل زنكي والأيوبيين في الشام، وبما صنعه صلاح الدين في مصر وبالمصريين ليفرض سيطرته عليها.

إسقاط الخلافة الفاطمية

يُعد كتاب حسن الأمين، "صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين"، الصادر في عام 1995، من أكثر الكتب التي حاولت تقديم تقييم موضوعي لصلاح الدين الأيوبي، مستنداً إلى العدد من المصادر المعاصرة لتلك الفترة التاريخية. وأشار إلى أن صلاح الدين كان يلعب لعبة مزدوجة، استهدفت إبعاد الخليفة العباسي عن الحرب في منطقة الشام، بإرسال رسل إلى الخليفة في بغداد يتظاهر فيها بالصمود ليبعد عنه شبهة الاستسلام للصليبيين، فلا يفطن الخليفة إلى ما يجري في الخفاء، وكان يرسل أخاه الملك العادل للقاء الملك ريتشارد قلب الأسد، للإسراع في إبرام اتفاق الاستسلام. وينقل عن العماد الأصفهاني في كتابه "الفتح القسي في الفتح القدسي" قوله عن بدء المفاوضات المباشرة بين العادل وملك الإنجليز، قوله بالنص: "في يوم الجمعة ثامن عشر من شوال ضرب الملك العادل بقرب اليزك لأجل ملك الإنجليز ثلاث خيام وأعد فيها كل ما يراد من فاكهة وحلاوة وطعام، وحضر ملك الإنجليز وطالت بينهم المحادثة ودامت المثافنة والمنافثة، ثم افترقا على موافقة أظهراها ومصادقة قرراها".

ثم يشير إلى إرسال صلاح الدين الأيوبي رسالة إلى الخليفة في بغداد يتجاهل فيها المفاوضات الجارية بينه وبين الصليبيين، والتي بدت طلائع نجاحها كما يقول العماد، لا يتجاهلها فقط بل يتظاهر باستمراره في القتال، ويقول فيها: "وما ينقضي يوم إلا عن نصرة تتجدد، ونعمة تتمهد وجمع للعدو يتبدد وجمر لنكاية فيه يتوقد، وخذ للسيف من حده يوم الشرك يتورد، وفتح بكر من الحرب العوان بلقاح البيض الذكور يتولد ...." يكتب هذا وأمثاله للخليفة في بغداد في نفس الوقت الذي كان فيه العادل يخطب أخت ملك الإنجليز، وفي نفس الوقت الذي نصبت فيه خيمة المفاوضات وملأها مندوب صلاح الدين بالفاكهة والطعام"...

وبشهادة أقرب الأقرباء إلى صلاح الدين نجد أنه تنازل في هذه المفاوضات عن العديد من المدن والمناطق للسيادة الإنجليزية فيما عدا القدس – نظراً لمكانتها المعنوية – فيقول ابن شداد في كتابه "الأعلاق الخطيرة في أمراء الشام والجزيرة" ذاكراً المدن التي تركها صلاح الدين للمهادنة: "حيفا، الرملة، اللد، يافا"، أو كما يقول المقريزي في الخطط: "من يافا إلى عكا إلى صور وطرابلس وإنطاكية،" ويقول الاصفهاني: "جعل لهم من يافا إلى قيسارية إلى عكا إلى صور".

أنهى صلاح الدين الخلافة الفاطمية في مصر ودعا للخليفة العباسي 1171م، وبموت ملك القدس يليه موت نور الدين محمود فجأة عام 1174م وهو يستعد للقيام بحملته إلى مصر، واعتبر صلاح الدين نفسه الوريث الشرعي لنور الدين وخرج بجيوشه إلى الشام في نهاية عام 1174م وقاتل ابن نور الدين وكان صبيا عمره اثنتي عشر عاما، ودخل في صراع مرير مع القوى الإسلامية من سنة وشيعة (من طائفة الاسماعيليين) والفرنجة حتى استتب له حكم الشام مع مصر حوالي 1186، وشرع في تحرير فلسطين من الفرنجة. 

غير أن كتب التراث المعاصرة للأحداث تكشف بعض الأكاذيب التي قدسها الزمن والتأويل والأهواء، ونعرف منها أن كل هزيمة ونصر يرتبطان بأسباب تتعلق بوقائع حقيقية على الأرض من تحالفات وقوة لا بأسباب وهمية مثل قدرة الغربي أو الشرقي أو قدرات مرتبطة بالدين.

الروايات التاريخية عن فتح القدس

ففي فتح القدس ننقل عن ابن الاثير في "الكامل في التاريخ – المجلد العاشر"، من طبعة دار الكتب العالمية ببيروت: "فلما رأى الفرنجة شدة قتال المسلمين، وتحكم المنجنيقات بالرمي المتدارك، وتمكن النقابيين من النقب، وانهم قد أشرفوا على الهلاك اجتمع مقدموهم يتشاورون فيما يأتون ويذرون، فاتفق رأيهم على طلب الأمان وتسليم البيت المقدس إلى صلاح الدين، فأرسلوا جماعة من كبائرهم وأعيانهم في طلب الأمان، فلما ذكروا ذلك للسلطان امتنع من إجابتهم وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة اثنين وتسعين واربع مئة، من القتل والسبي وجزاء السيئة بمثلها، فلما رجع الرسل خائبين محرومين أرسل باليان بن بيرزان وطلب الأمان لنفسه ليحضر عند صلاح الدين في هذا الأمر وتحريره، فأجيب إلى ذلك وحضر عنده ورغب في الأمان، وسأله فيه فلم يجبه إلى ذلك، واستعطفه فلم يعطف عليه، واسترحمه فلم يرحمه، فما أيس من ذلك قال له: أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمه إلا الله تعالى وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ظناً منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم، وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا الموت لابد منه فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ونحرق أموالنا وأمتعتنا، ولا نترككم تغرمون منها ديناراً واحداً ولا درهما ولا تسبون أو تأسرون رجلاً ولا امرأة، وإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهم من المواضع، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين، وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك لنا دابة ولا حيواناً إلا قتلناه، ثم خرجنا إليكم كلنا قاتلناكم قتال من يريد ان يحمي دمه ونفسه، وحينئذ لا يقتل الرجل حتى يقتل أمثاله ونموت أعزاء أو نظفر كراماً". فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على إجابتهم إلى الامان.

بعد سقوط القدس تحركت الحملة الصليبية الثالثة لاستعادتها من يد المسلمين، قادها ثلاثة ملوك؛ سبقهم فردريك باربروسا، ملك ألمانيا، الذي مات غرقاً في الطريق، وفيليب أوغست الثاني، ملك فرنسا، الذي غادر عكا قبل أن تحقق الحملة أياً من أهدافها، وريتشارد الملقب فيما بعد بقلب الأسد، ملك إنجلترا، الذي أكمل مسيرة الحملة إلى النهاية، ومنها خمسة عشر شهراً من المفاوضات مع الملك العادل ابن صلاح الدين – حيث لم يقابل كلا البطلين أحدهما الأخر على الإطلاق- وهذه الفترة هي التي نستطيع بناء على تفاصيلها وصف صلاح الدين بخيانة الخلافة الإسلامية في بغداد خوفاً على مركزه كحاكم مطلق لمصر والشام.

فعندما وصلت أخبار تحرك جيوش ألمانيا إلى الخليفة العباسي الناصر، كانت هذه فرصة سانحة ليرسل جيوشه وتصبح فلسطين تابعة للخلافة لا لصلاح الدين، وخصوصا أن الأخير في نهاية أيامه. فحاول صلاح الدين أن يثني الخليفة عن ذلك، أولاً بإرسال رسالة يستهين فيها بجيش الفرنجة وأنه قادر بمفرده على السيطرة على الموقف، والثانية عكس ذلك تماماً فعندما رأى إصرار الخليفة بل واصطدامه مع رسل الخليفة كلامياً أرسل رسالة – ذكرها نصاً العماد الاصفهاني في كتاب الفتح القسي- يصور فيها انهيار جيوشه وعسكره وعدم قدرته على خوض أي حرب بسبب نفاد مدده وعتاده ....، وقد كانت لتكون رسالته صادقة بعد سنوات من الحرب لولا أنه في ذات الوقت جمع ابنيه الأفضل والعادل ليحركا جيوشهم تجاه دول اسلامية تقع ولو اسمياً تحت نطاق حكم الخليفة العباسي بعدما عاهد ريتشارد، أي أنه أعلن فعلياً التمرد على الخلافة.. ولكن ما يهمنا هنا هو تفاصيل الصلح مع الإنجليز، كيف دارت المفاوضات بين ريتشارد وصلاح الدين في ظل وجود الخليفة الشرعي للمسلمين في بغداد؟

محاولة للصلح والمصاهرة

لم يكن مجرد صلح ولكن مصاهرة أيضاً حتى تتوطد أركان الصلح، لقد طلب الملك العادل من ريتشارد أن يزوجه بأخته، وقد تمت الموافقة المبدئية على ذلك، يقول أحد أطراف المفاوضات – العماد الاصفهاني: "وصلت رسل ملك الإنجليز إلى العادل بالمصافحة على المصافاة، والمواتاة في الموافاة، وموالاة الاستمرار على الموالاة، والأخذ بالمهاداة، والترك للمعاداة. والمظاهرة بالمصاهرة، وترددت الرسل أياماً، وقصدت التئاماً، وكادت تحدث انتظاماً. واستقر تزوج الملك العادل بأخت ملك الإنجليز، وأن يعول عليهما من الجانبين في التدبير. على أن يحكم العادل في البلاد، ويجري فيها الأمر على السداد، وتكون المرأة في القدس مقيمة مع زوجها وشمسها من قبوله في أوجها. ويرضي العادل مقدمي الإفرنج والداوية والسبتار ببعض القرى. ولا يمكنهم من الحصون التي في الدار، ولا يقيم معها في القدس إلا قسيسون ورهبان، ولهم منا أمان وإحسان" – ولكن يبدو ان مستشاري ريتشارد رفضوا ذلك وأرهبوا العروس التي رفضت بعد الموافقة، أو كما يقول الاصفهاني بلغته المصطنعة: "فرهبت بعدما رغبت، وبطلت بعدما طلبت، وسلت بعدما سألت، ونزت بعدما نزلت، وكرهت وكانت شرهت... " فلنتركه يكمل أوصافه ونذهب. 

إن الانتصار والهزيمة هم أبناء عوامل واقعية تفرضها مصالح الشعوب في المنطقة وكذلك القدرات العسكرية، لقد انتصر صلاح الدين على الفرنجة بعدما وحد مصر وسوريا تحت قيادة عسكرية واحدة – نعم صنع ذلك بمذابح للسنة والشيعة بل وتحالف مع الفرنجة – وانهزم الفرنجة بعدما تصارعت ولاياتهم الصغيرة بعد موت امالريك، ملك القدس، وفي عصرنا الحالي سنرى مثلا أن الانتصار الوحيد الذي حققناه ضد الكيان المحتل لأرض فلسطين تم بتحالف عسكري حقيقي بين مصر وسوريا، ونرى أيضا أن كل الهزائم التي تحث سببها تفكك الدول العربية ونظرتها القاصرة لمصالح ضيقة ووهمية لا تخدمها على المدى البعيد.

لكي نضع الأمور أيضاً في نصابها نذكر واحداً من الأسباب الرئيسية لانتصار صلاح الدين على الفرنجة، وهو أيضاً نفس سبب انتصار الفرنجة على المسلمين في البداية ألا وهو انقسامهم على ذاتهم، فيذكر ابن الاثير في حوادث عام 582 هجرية أن القمص صاحب طرابلس ويدعى ريموند الصنجلي قد تزوج بأميرة – حاكمة – طبرية وصار حاكماً على المدينتين، وعند موت الملك تولى الوصاية على ولده وكان صغيراً وكان يمني نفسه بالسيطرة على العرش فيما يبدو، فعند موت الصبي تزوجت أمه من أحد الفرنجة وصار ملكاً فتمرد صاحب طرابلس، وأول ما صنعه هو مراسلة صلاح الدين طالباً العون والمساندة، وكانت هذه فرصة لا يتركها رجل مثل صلاح الدين، فتحركت جيوشه إلى دويلات الفرنجة المنقسمة تسقطها واحدة تلو الأخرى.

وتبقى الأساطير تغذي بها الحكومات أو طبقات مثقفة مشاعر الجماهير لتشعر بالرضا الوقتي مع كل هذه الهزائم، ولنلاحظ دائما أن المنتصر هو من يمسك بناصية البحث والعلم والدراسة الحقيقة سواء للتاريخ والدراسات النظرية أو الدراسات العملية، أما في شرقنا المتخيل سنظل نحيا على الأساطير، التي لعجائب القدر كان يقف ضدها بأفعاله وخططه، لكنها حال التاريخ الذي يرويه المنتفعون والمنافقون، ولا يكشفه الدارسون والباحثون عن الحقيقة.
---------------------------
بقلم: شنودة الأمير

مقالات سابقة في ملف "نحن والغرب"

مقالات اخرى للكاتب