(ما سيلي هو إقتطاع من بعض فصول كتابي – تحت الطبع – دبلوماسية السويس، لمجرد تسليط بعض الضوء علي تلك الفترة المتآلقة في تاريخ الدبلوماسية المصرية العتيقة، عندما تمكنت أن تحول "هزيمة عسكرية" مؤكدة، إلي "انتصار دبلوماسي ساحق" حقق لمصر كل أهدافها وعلي رأسها تمويل مشروع السد العالي من إيرادات قناة السويس).
عندما قام فوستر دالاس وزير خارجية أمريكا بسحب عرض تمويل بناء السد العالي، وتبعته بريطانيا العظمي بسحب عرضها أيضاً، وبالتالي أعلن يوجين بلاك مدير البنك الدولي سحب عرض التمويل أيضاً، قال دالاس ساخراً لأحد الصحفيين: "إن ما فعله هو حركة في الشطرنج تعني موت الملك – أي عبد الناصر -" ، وقهقه العجوز إيدن في ١٠ دواننج ستريت وهو يتخيل سقوط عبد الناصر المدوي، بعد كل ما سببه من إزعاج و"دوشه" في الهجوم علي حلف بغداد، وتهديد العروش العربية التي بدأت تترنح، "حتي وصل الأمر بالملك الصغير حسين إلي طرد الجنرال الإنجليزي جلوب باشا قائد القوات الأردنية "!.
ولم يمض علي ذلك سوى أسبوع واحد ...
حين كان نوري السعيد رئيس وزراء العراق يتناول العشاء مع إيدن في ١٠ داوننج ستريت مساء يوم ٢٦ يوليو ١٩٥٦، عندما دخل أحد معاوني رئيس الوزراء البريطاني ووضع ورقة صغيرة أمامه، وما أن قرأها إيدن حتي بهت واصفر وجهه وارتعشت يده وهو يردد: "غير معقول .. غير معقول .. ناصر أمم قناة السويس!!"، قفز نوري السعيد مطالباً بالقضاء على عبد الناصر، وسارع إيدن لعقد اجتماع عاجل لمجلس الوزراء حضره أيضاً سفيرا فرنسا وأمريكا في لندن ...
كان إيدن يرغي ويزبد وهو يقول لكل من يقابله أنه لا بد أن يحطم عبد الناصر، بينما قال وزير خارجية أمريكا عندما وصل إلي لندن لحضور مؤتمر لندن الأول: "لا تقلق .. سوف نرغم عبد الناصر علي تقيؤ القناة Disgorge it “ .
.............، ............، ............
ودارت عجلة الزمن بعد مؤتمر لندن الأول الذي أرسل وفدًا إلي مصر برئاسة رئيس وزراء استراليا كي يملي على عبد الناصر ما اعتبر شروط الاستسلام، مهددًا بأنه لم يأت للتفاوض وإنما لتسليم رسالة على مصر قبولها وإلا ... ورفض عبد الناصر الرسالة، وإن ترك الباب موارباً لمزيد من البحث، على أساس أن مصر سترسل مقترحات مضادة ..
ثم انعقد مؤتمر لندن الثاني ... ولقي نفس المصير، بينما إيدن ومعه رئيس وزراء فرنسا جي موليه يعدان لعمل عسكري، مع إشراك إسرائيل كمخلب قط في البداية ..
وانتقل الموضوع إلي الأمم المتحدة، وكان عبد الناصر ومعه مهندس الدبلوماسية المصرية يعملان في صبر في إطار خطة لكسب الوقت، تتيح تبريد الأزمة، وحصار الموقف المتعنت لبريطانيا وفرنسا، مع توسيع الاتصالات مع كافة دول العالم لكسب المتعاطفين في نفس الوقت ..
..........، ..........، ................
وفي إحدي البرقيات التي أرسلها الوزير د. محمود فوزي قبل بدء المبارزة الدبلوماسية في نيويورك، وبعد أن نقل الوزير حديثا طويلا مع وزير خارجية بلجيكا الذي توسع في اقتراحاته، قال د. فوزي في ختام برقيته : "لا يجب الارتكان إلي مثل هذا الكلام" !!.
هل من الطبيعي أن يختتم وزير خارجية برقيته الرمزية الطويلة إلي رئيس الدولة حول حوار بأنه في النهاية "لا يجب الارتكان إلى مثل هذا الكلام"؟، لماذا إذًا تكبد الوزير كتابة البرقية ومشقة تشفيرها في نيويورك والقيام بحلها في القاهرة، فضلاً عن إضاعة وقت رئيس غارق حتى أذنيه في تفصيلات عديدة؟.
الواقع ما ورد في الحديث نفسه مجرد "كلام من أجل الكلام" كما يبدو، فكل ما ورد على لسان الوزير البلجيكي معروف لدى وزير الخارجية المصري، بل إن الرجل لم يقصر في إسماع الوزير "النغمة التي تروق له"، وبالنسبة لدبلوماسي محنك جاد مثله لم يكن تستهويه هذه "الأكروبات الدبلوماسية" التي يمارسها بعض الهواة في الحقل الدبلوماسي، بغرض محاولة اصطياد معلومة هنا أو تصريح هناك والمتاجرة به في السوق الدبلوماسي للكلام!. فلم يكن لديه شك في أن البلجيكي سوف يخرج من مقابلته كي يلتقي مع الأمريكي والإنجليزي والفرنسي، ويبيع كلاما!!.
وتعكس البرقية ما تقدم، حيث يبدو د. فوزي صامتًا يستمع ولا يعلق، إلا عندما تمت صياغة البرقية ووضع تلك الخاتمة المحيرة، وأغلب الظن أن الوزير المصري كان ملمًّا بأن هناك ضجيجاً وزحمة مقترحات في القاهرة تتصارع للوصول إلي آذان رئيس الدولة، ولذلك كتب هذه البرقية كي يختتمها باستبعاد الكثير من ذلك الطنين الدبلوماسي الذي قد يجد أذنًا صاغية من الرئيس. أي أن هذه البرقية لا ترسل معلومات، وإنما هي التفاف استباقي لمصادرة ما ورد فيها من "معلومات"!. وذلك أيضًا يلقي بعض الضوء علي الأسلوب الخاص للدكتور محمود فوزي في العمل.
ولم يكن عبد الناصر بعيداً عن سخونة الموقف في نيويورك، فقد كان لا يزال يراهن علي كسب الوقت، وتفويت الفرصة على "بريطانيا" من التحرك عسكرياً (كما كان يتخوف ويراقب)، ولذلك كان يتفاوض من القاهرة على طريقته، ويمد الوفد المصري في نيويورك بكل ما يتحصل عليه من معلومات، دون أن يتدخل كثيراً في العمل الذي يقوده د. فوزي.
والبرقية التالية أرسلها عبد الناصر للوفد في نيويورك عن لقاء مع السفير السوفييتي في القاهرة وما حمله من رسائل من موسكو، وهي تعد من افتتاحيات التحضير لبدء المبارزة الدبلوماسية في نيويورك، فيها عدد من الاقتراحات التكتيكية التي تعد بالفعل "جنة الدبلوماسيين"، ففيها كما يقال بالمثل الشعبي "يضرب ويلاقي"، يخترق ويلتف ويحاصر وينسحب، وهي إجمالاً تعكس الأسلوب السوفييتي المفضل في المؤتمرات الدولية خلال تلك الحقبة.
إلا أن ذلك لا يشير بشكل محدد إلي إستراتيجية محددة، وهي التي تعد بالمراجعة التاريخية الملعب الذي يبرع فيه جمال عبد الناصر، لذلك نجده في الرسالة التي أملاها كي تصل إلي وزير خارجيته الموجود في الخنادق الأمامية في نيويورك لا يعلق كثيراً، ولا يبدي رأياً في هذا السيل السوفييتي من المناورات التكتيكية، بل أنه حتى في نهاية البرقية عندما يشير إلي أنه "لا مانع" لديه من الموافقة على اللجنة الاستشارية المقترحة من السوفييت، لا ينسى أن يضيف "ويترك لكم حرية التصرف".
ذلك يشير إلي الأسلوب الذي اتبعه عبد الناصر في إدارة أزمة السويس وخاصة عندما وصلت إلي مرحلة "المبارزة الدبلوماسية"، لقد ترك المحترفين المصريين وعلى رأسهم د. محمود فوزي يديرون هذه المعركة بالأدوات التي يجيدونها، والتي كما سيتضح أنهم تفوقوا فيها ليس فقط علي أقرانهم من البريطانيين والفرنسيين والأمريكيين، وإنما ايضاً علي الحلفاء الظاهرين مثل الهند والاتحاد السوفييتي، كما سنوضح في الفصل التالي من الكتاب.
...........، .........، ........
وكما سوف يتضح لاحقًا، فإن د. محمود فوزي الذي كان يفهم "أصول اللعبة " سواء في السياسة أو الدبلوماسية، كان يتحرك ويتكلم ويناور بحذر في المجالين، فهو مع رئيس مصر يبدي التواضع الجم، ويحاول الإيحاء بأنه لا يفعل أي شيء إلا علي هدي توجيهات الرئيس، ولذا كما سنلاحظ فهو إذا رفض ما قد يبدو اتجاهًا للرئيس، فإنه يصوغ ذلك الرفض في غلالة رقيقة من السلوفان بحيث "يبيع فيها للرئيس" أن الرأي المختلف هو في الأصل رأي الرئيس، وعلي النسق الدبلوماسي فهو يلعب حرفياً "بالبيضة والحجر"، وقد تنكسر البيضة وقد يصيبه الحجر، فهو يراقص شبيلوف الروسي على أنغام البولشوي ويمنحه شكل الاستعراض الكبير الذي يرضي غروره، ومع دالاس الأمريكي يرتدي "الرودنجوت" ويتحدث "كرجل أعمال" يناقش بجدية إبرام صفقات مع محامي الشركات الكبير، ومع " كريشنا ممنون " الهندي يمنحه الفيل الذي يقتحم به محل الصيني في المثل الشهير، لا يرده ولا يشجعه، وفي كل الأحوال يترك للآخرين ملاحظة اندفاعه وغروره، ولا يمانع د. فوزي في استخدامه لتحقيق الأغراض المصرية كلما كان ذلك ممكناً ، ولقد كان في هذه المبارزة يحترم كما يبدو وزير الخارجية البريطاني سلوين لويد (ولا ننسي أن المدرسة الدبلوماسية البريطانية كانت ولأحقاب هي المعهد الذي تدرب فيه أغلب الدبلوماسيين والمفاوضين المصريين)، أما وزير الخارجية الفرنسي كريستيان بينو فلم يكن محمود فوزي يراه نداً بأي شكل، ونجح فعلاً في إحراقه لدي السكرتير العام، بل ولدي سلوين لويد نفسه عندما فضح سطحيته وأظهر أنه يتفاوض بسوء نية ويبيت العدوان، وكان عذره أنه لا يجيد سوى اللغة الفرنسية، بينما فوزي (الذي كان يجيد الفرنسية أيضاً) يتحدث بالإنجليزية مع السكرتير العام للأمم المتحدة داج همرشلد، وبالطبع مع سلوين لويد وكذلك مع وزير الخارجية الأمريكي فوستر دالاس، بينما يجلس "بينو" كالأطرش في الزفة، ولم يكن لديه علي كل حال الكثير الذي يمكنه أنه يضيفه.
-----------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق