31 - 05 - 2025

لعنة السياسة في العمل النقابي!!

لعنة السياسة في العمل النقابي!!

بدأ البرلمان المصري عام 1938م، مناقشة مشروع إنشاء نقابة الصحفيين، الذي أعده الدكتور محمود عزمي، ضمن محاولات الصحفيين، التي لم تتوقف على مدى عقود سابقة حتى يخرج حلمهم إلى النور وهو ما تحقق في 31 مارس عام 1941م.

اللافت أن أول جدل في مجلس الشيوخ عند مناقشة مشروع قانون النقابة، هو اعتراض النائب يوسف أحمد الجندي، الشهير برئيس جمهورية زفتى، على نص كانت لا تخلو منه قوانين النقابات المهنية في ذلك الوقت، بحظر الاشتغال بالسياسة، وقال: «كيف يحظر على نقابة الصحفيين الاشتغال بالسياسة، لأن تنظيم مهنة الصحافة وتكوين نقابة للصحفيين يستلزم الاشتغال بالسياسة، فإذا سنّت الحكومة قانونًا من شأنه الحد من حرية الصحف ما يستدعي أن تناقشه هيئة النقابة تم منعها بحجة اشتغالها بالأعمال السياسية، مع أن طبيعة تنظيم المهنة تقتضي من النقابة الكلام في السياسة، كما أن العمل على رفع شأن الصحافة وإعلاء كلمتها يستدعي حتمًا تعرض النقابة للشؤون السياسية». وامتد الجدل، وفي النهاية انتصر منطق وحجة يوسف الجندي. 

منذ هذه اللحظة بات الوعي الجمعي للصحفيين لا يخلط بين اهتمام النقابة والصحفيين بالسياسة بحكم طبيعة عملهم، وبين العمل الحزبي الذي كان يلخّصه ويردده على مسامعنا النقيب كامل زهيري:- "اخلع رداءك الحزبي على باب النقابة".

ولم تسمح الجمعية العمومية أو مجالس النقابة، التي أبدت رأيها في كثير من أمور السياسة العامة للوطن خلط المفاهيم بين إبداء الرأي في الشأن العام والحريات العامة، وفي القلب منها حرية التعبير والصحافة وبين الممارسة الحزبية. 

لم يخطر على بال يوسف الجندي بعد أن انتصر للحقيقة منذ عقود طويلة، وكنا أول نقابة مهنية لا يحظر قانونها العمل بالسياسة، أن يأتي مَن ينتسب لمهنة الرأي ليطرح غير ذلك في حديث بات ممجوجًا وبغير معنى.

للأسف هذا الخلط يتم بغير براءة، وأحيانًا بغير وعي، ويجري تسويقه لأسباب انتخابية، بل ولا أتجاوز إذا قلت إنه يتم لدوافع غير نقابية بالمرة.

فمعركة إنشاء النقابة، التي استمرت نحو 50 عامًا قبل عام 1941م، كانت معركة سياسية في مضمونها لأن القصر الملكي، والمندوب السامي البريطاني كانوا يعلمون خصوصية ودور وتأثير نقابة الصحفيين وسعوا بطرق عديدة لعرقلة خروجها للنور. 

فمثلا هل كان من أعمال السياسة قيام عضو مجلس النقابة حافظ محمود على مسئوليته (خلال سفر النقيب فكري أباظة) بتوجيه إنذار لملكة بريطانيا لإخلاء قطعة الأرض المخصصة لبناء النقابة في موقعها الحالي، والتي استولت عليها القوات البريطانية لتكون مكانًا لاستشفاء الجنود البريطانيين المصابين وهو للمفارقة ما استجابت له عبر سفارتها بالقاهرة!.  

وهل كان النقيب أحمد بهاء الدين، الذي أعلن تضامنه ومجلس النقابة مع مطالب الطلبة عام 68، لإعادة محاكمة المسؤولين عن هزيمة 67 يمارس السياسة!.

وهل كان النقيب حسين فهمي، الذي كان وراء تأسيس المنظمات النقابية الصحفية العربية والإفريقية والآسيوية لتكون سندًا للموقف المصري في المحافل الدولية يمارس السياسة!. 

وهل كانت الأزمة مع الرئيس السادات ضد قراره تحويل النقابة إلى نادٍ، ثم رفض ضغوطه على النقيب كامل زهيري فصل الصحفيين المعارضين، وقرار مجلس النقابة الذي اعتمدته الجمعية العمومية عام 1981م، بحظر التطبيع مع الكيان الصهيوني ممارسة للسياسة!.     

وهل كانت مواجهة الجمعية العمومية التي استمرت في اجتماعات مفتوحة على مدى عام للقانون (93) لسنة 95 بعد أن وقّعه رئيس الجمهورية واستقالة إبراهيم نافع، ومجلس النقابة للضغط من أجل إسقاط هذا القانون المعيب ممارسة للسياسة!.  

واحتجاج النقيب مكرم محمد أحمد على سوء معاملة الدكتور محمد السيد سعيد في السجن بعد إلقاء القبض عليه، ومهاجمته لوزير الداخلية زكي بدر ممارسة للسياسة!.

وهل مهاجمة النقيب جلال عارف لوزير الداخلية حبيب العادلي أو إصدار بيان ضد السفير الأمريكي، الذي حاول التدخل في شؤون الصحافة المصرية، أو قيادته لمظاهرة تضم العشرات من الصحفيين من النقابة إلى البرلمان للمطالبة بإسقاط المواد السالبة للحرية في قانون العقوبات، والمطالبة بلائحة عادلة لأجور الصحفيين ممارسة للسياسة!. 

وهل رفض الجمعية العمومية، ومجلس النقابة اقتحام النقابة من قوة أمنية لإلقاء القبض على زميلين ممارسة للسياسة!.

وهل موقف النقابة من القضية الفلسطينية، ورفض التهجير الداعم للموقف المصري ممارسة للسياسة!

لم يكن الأمر يحتاج مني كل هذا العناء لإثبات ما هو معلوم بالضرورة، ولكنني أعلم بحكم التكرار أن الهدف من هذا الخلط، الذي يمارس على طريقة (جلا جلا)، ليس المقصود منه ممارسة السياسة على أي نحو، بل تحقيق هدف آخر تمامًا يريدون إيصاله إلى قطاعات واسعة، وهو ادعاء غياب دور النقابة في خدمة أعضائها لأنها تفرغت لغير مهمتها الأساسية!.

والمفارقة هنا أن الحقائق لا تساعدهم، ولا تسعفهم، خاصة لكل متابع للنقابة خلال العامين الماضيين.

فالنقابة الخاوية على عروشها منذ سنوات فتحت أبوابها لأبنائها، والبيت الموحش دب فيه الونس بأهله.                                          

ونقيب استدعى لأول مرة منذ سنوات كل النقباء والنقابيين في إحياء لتقليد نقابي قديم يطلب مساندتهم، وخبراتهم بمن فيهم نقيب أسبق منافس له في الانتخابات الحالية. وإحياء مركز تدريب كان قد دخل غرفة الرعاية، ودور لمؤسسة النقابة في قضايا الحوار الوطني، والقضايا المجتمعية والوطنية والقومية.              

وعقد مؤتمر عام شهد حوارًا حول قضايا المهنة وأوضاع الصحفيين.

ومجلس نقابة شمّر عن ساعديه، وتحرك في كل اتجاه كي يستطيع أن يقدم الخدمات المتنوعة بطريقة مؤسسية دون منٍّ على أحد، وهمّه في مشروع رقمنة الخدمات والتعاملات ينقل العمل الإداري وخدمة الجمهور نقلة نوعية كبيرة وغير مسبوقة، وحديث عن مشروع ذاكرة الصحافة المصرية وتفاصيله نقلة كبيرة في حفظ ذاكرة النقابة والمهنة، وغير ذلك الكثير الذي أتابعه مع زملائي أعضاء الجمعية العمومية.

إذن جريمة تورط النقابة أو "شلة " في العمل السياسي مدخل فاسد لنتيجة يُكذبها واقع الحال. فالنقابة لا تحتاج لهذه الأفكار المعملية الفذة، ولا تكرار الطلب من مسؤول -عبر جهات غير صحفية- لالتقاط الصور الساذجة مع مرشح بعينه، ولا إلى حُمى الضغوط والقهر، التي تتم والاجتماعات التي لا تتوقف، والتي تتسرب تفاصيلها، ويقرؤها أي صاحب فطرة سليمة أنها تدخل سافر في شؤونه، ونيل من إرادته.

نعم وأكررها للنقابة ربٌ يحميها، ووعي جمعيتها العمومية، وأجزم أنها القادرة وحدها على التصدي لكل هذه الألاعيب كما تصدت لها في أوقات كثيرة كان الكيان النقابي فيها على المحك.
---------------------------
بقلم: يحيى قلاش
* نقيب الصحفيين الأسبق

مقالات اخرى للكاتب