تردّد اسم الأستاذ "حمد الله حافظ الصفتي" كثيرًا في سياق الحديث عن قضية "شمروخ محمد شمروخ" وإسناده، وقد كتب في ذلك كتابًا مهمًّا نشرته دار الفتح بعنوان "تحذير الشيوخ من إسناد شمروخ" انتهى فيه إلى مباحث مهمة في بعض أسانيد القراءات المنتشرة، وكان لقضية شمروخ الإسنادية ضجيجٌ علميّ في حينها، شارك فيه كثيرٌ من المتخصصين، غير أن الصفتي تميز بنَفَسٍ تحقيقيٍّ دقيق، وحرصٍ على إحكام النظر في تفاصيل الرواية والإسناد. ثم رأيت اسمه يتكرّر في تحقيقات علمية لعدد من كتب التجويد، فتبين لي أن الرجل ذو عناية قديمة بالتحقيق واشتغال جاد بالفنون المختلفة، وكانت لي به معرفة أخرى، يوم عرفته في حديث أستاذنا الكبير أحمد مختار رمزي، يصفه لي طالبًا بين يديه، يستنطق العلم ويسلك درب النجباء، وهو أستاذ عرف بدقته في تمييز الطلبة الجادين، وكان لا يُثني على أحد إلا عن بينة وتجربة.
غير أنّ ما لا يذكره د. حمد الله الصفتي – تواضعًا أو نسيانًا – أني التقيت به في مناسبات عدة. أذكر منها يومًا من أيام الضحى حين رافقتُ رفقةً من المهتمين بالسند والرواية لزيارة الأستاذ محمد أسامة المعتز نجل العلّامة المحدث أحمد محمد شاكر (ت2010م)، في بيته بروكسي بمصر الجديدة. وكانت الأوساط العلمية يومئذٍ تتداول أن أسامة شاكر يحمل إجازة من السيد محمد عبد الحي الكتاني، إذ قد وقف بعض الباحثين على صورة إجازته المحفوظة في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وقد تيسّر لي الظفر بنسخة مصوّرة منها أحتفظ بها بين أوراقي، وقد استجاز له والده، إلا أن هذه الإجازة لم تلقَ اهتمامًا يُذكر في البداية من السيد أسامة شاكر، لبعده عن الوسط العلمي، غير أن الأمر تم تداركه لاحقًا، فأُعيد الاعتبار للإجازة، وأجاز بها عددًا من المعنيين بالإسناد، وتوفي عن عمرٍ جاوز التسعين، وقد حظيتُ بزيارته مراتٍ عديدة، وسمعتُ منه أخبارًا نفيسة عزيزة. وكان مما شدّني إليه معرفته الواسعة بالماضي، وإلمامه بأحوال الوجهاء، وتفاصيل الأحداث الكثيرة التي قلّ من يحفظها أو يرويها مثله.
كما كنت ألتقي الأستاذ الصفتي بين حين وآخر في مقر الرابطة العالمية لخريجي الأزهر بمدينة نصر، فأراه على مكتبه منكبًّا على القراءة في صمت، منهمكًا كما يُحِبُّ القارئ أن يرى أهل العلم .وأنا رجل تسرّني رؤية من يستغرق في القراءة، فكان منظره يبهجني، وقد سجلت تلك اللحظات في كشكول خاص أدوّن فيه مشاهداتي اليومية، وكان موقف الأستاذ الصفتي مما راقني فحفظته.
وقد التقينا أخيرًا في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025م، ففوجئت بأريحيته وطمأنينته، فهو من أولئك الذين يدخلون القلب بلا استئذان. وقفنا نتبادل الحديث مع بعض أصدقائنا، وقد ترك ذلك اللقاء في نفسي أثرًا طيبًا، لا من جهة العلم وحده وتحصيل بعض الفوائد، وإنما من جهة الروح الطيبة والخلق الودود الذي لمسته فيه.
ثم أهداني مشكورًا بعض كتبه الصادرة عن دار الصالح بالقاهرة، ومنها كتابه"عبرات القلم … مقالات في الدين والتاريخ والسياسة" الذي جمع فيه مقالاته المنشورة في الصحف والمجلات. وهو كتابٌ حافلٌ بصنوف متعددة من المعارف: بين العقيدة، والتاريخ، والتراجم، والتربية، والمناهج التعليمية. قرأت الكتاب بمتعة، وسجّلت منه فوائد جمّة، وزادني إعجابًا بما فيه من وضوح العبارة، وحسن الترتيب، وقوة الطرح، حتى وجدت نفسي أعود إلى بعض عناوينه أكثر من مرة.
ولا شك أن قلم الدكتور "حمد الله الصفتي" قلمٌ أزهريّ أصيل، مشبع بروح التأصيل، يحمل ملامح مَن تلقى العلم عن الكبار، وتربّى في حضرة الكتب والمدارس العريقة. وإنّا لنرجو أن تكون هذه الأقلام الصاعدة عوضًا عن أولئك الكبار من الكتّاب الأزهريين الذين رحلوا عنا وبقيت آثارهم. وإن كانت الأيام لا تمهل أحدًا، فإن ما يبقى للناس هو أثرهم، وكتاب الأستاذ الصفتي وأمثاله من الكتابات الأزهريّة الرصينة هي بعض ما نرجوه علامةً على استمرار هذا النور.
حياكم الله سيدي، وأسال الله أن يديم عليكم نعمة العطاء والكتابة، وأن يجعل ما تكتبونه في ميزان القبول والخير.
----------------------------------------------
بقلم: د. علي زين العابدين الحسيني