في لحظة يتقاطع فيها الألم الفلسطيني مع المأساة السورية، كشفت الصحافة السويسرية هذا الأسبوع عن تحولات مثيرة في المشهد الشعبي داخل غزة، حيث بدأت تتزايد موجات الغضب الشعبي ضد حركة حماس، في وقت تعود فيه إلى الواجهة واحدة من أكثر القضايا الإنسانية تعقيدًا في سوريا، تتعلق باختفاء الطبيبة وبطلة الشطرنج رانيا العباسي وأطفالها الستة منذ عام 2013، وسط اتهامات لمنظمة دولية بالتواطؤ في طمس مصيرهم.
صحيفة تاغيس أنتسايغير السويسرية، نشرت تقريرًا موسعًا يدمج بين نبض الشارع الفلسطيني المكتوم، وأسئلة غير مجاب عنها في ملف إنساني سوري شائك، لتعيد تسليط الضوء على حجم الكلفة الإنسانية للصراعات في المنطقة، وتورط أو صمت أطراف يُفترض أنها مدافعة عن حقوق الإنسان.
في غزة، خرج مئات، وربما آلاف الفلسطينيين، خلال الأسابيع الماضية، في تظاهرات نادرة ضد حكم حماس، رافعين شعار "برا برا" (أي "اخرجوا") في دعوة صريحة لإنهاء هيمنة الحركة على القطاع. ورغم القبضة الأمنية المشددة، تصدّع جدار الصمت.
المظاهرات وُوجهت باتهامات بالخيانة من قبل الإعلام الرسمي التابع لحماس، الذي وصف المحتجين بأنهم "عملاء لإسرائيل"، وفق ما أفاد مراسل الصحيفة السويسرية في الشرق الأوسط.
في موازاة ذلك، استعرضت الصحيفة ما وصفته بـ"فضيحة الصمت الدولي" في قضية اختفاء رانيا العباسي، وهي طبيبة أسنان ولاعبة شطرنج سورية بارزة، اختطفتها قوات النظام السوري مع أطفالها الستة ومساعدتها وزوجها، دون أي أثر منذ 11 مارس 2013.
التقرير، الذي أعدته الصحفية سونيا زكري، ينقل عن شقيق رانيا، حسن العباسي، قوله: "كانت تشعر بالأمان. لم تحتج، لم ترتكب شيئًا… كيف لها أن تتوقع هذا الكم من الوحشية؟".
لكن ما يجعل الملف أكثر تعقيدًا، بحسب التقرير، هو الدور المثير للجدل لمنظمة قرى الأطفال SOS، التي تشير شهادات إلى أن فروعها في سوريا تعاونت مع أجهزة النظام، وربما استقبلت أطفال العباسي بعد اعتقالهم، دون أي إجراءات للتحقق من هوياتهم أو الدفاع عن مصيرهم. شقيقة رانيا، نائلة، تؤكد أن الأطفال "أودعوا في قرية SOS، ولو مؤقتًا"، بينما لم تنفِ المنظمة هذا الارتباط، ما أثار موجة استياء جديدة لدى السوريين.
الصحيفة لفتت إلى أن هذه الحالة تُعد نموذجًا لما بات يُعرف بـ"غسيل الأسد"، أي استخدام منظمات إنسانية لصبغ نظام دمشق بغطاء قانوني أو أخلاقي، رغم تورطه في انتهاكات واسعة. وتُقدّر الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدد الأطفال الذين نُقلوا إلى دور رعاية من أبناء المعتقلين بنحو 3700 طفل.
وفي الوقت الذي تقاوم فيه نائلة العباسي فكرة استسلامها الكامل للحقيقة المؤلمة، فإنها تصرّ على مواصلة البحث. تقول في لحظة مكاشفة إنسانية نادرة: "سلّمت بوفاة رانيا… لكنني لن أتخلى عن أملي في العثور على أحد الأطفال. إن لم أجدهم جميعًا، فسأجد واحدًا منهم على الأقل".
الدمج بين المشهدين افلسطيني والسوري لم يكن عبثيًا في الطرح السويسري، بل يعكس حالة عامة من الإنهاك الشعبي في وجه أنظمة أو سلطات، تحمل شعارات المقاومة، بينما تغرق مجتمعاتها في الجوع، والتهجير، والقمع.
في غزة، حيث اختلطت أصوات الغضب مع الدمار اليومي، تنقل الصحيفة شهادات لفلسطينيين يرفضون اختزالهم في أدوار "كومبارس" داخل مشهد عسكري طويل الأمد. قادة حماس في الخارج، كما يشير التقرير، يرون في الحرب أداة لعزل إسرائيل دوليًا، دون الاكتراث الكامل بتكلفة بشرية يتحملها من تبقّى في القطاع المحاصر.
وفي دمشق، تتراكم الأسئلة حول كيف يمكن لنظام أن يختطف عائلة كاملة، ويذيب أثرها، بينما تستمر المنظمات الإنسانية في العمل ضمن أراضيه دون مساءلة تُذكر. لماذا التزمت منظمة دولية، مثل قرى الأطفال SOS، الصمت؟ ولماذا لم تعلن منذ البداية إن كانت قد استقبلت الأطفال؟ وما مصير أولئك الصغار الذين ربما كبروا اليوم بأسماء وهوية مزيفة، في دولة تعيد تشكيل مصائر البشر حسب أجندتها؟
هذه الأسئلة، كما تلمح الصحيفة، ليست مجرد استفسارات إنسانية، بل هي صرخة ضد نظام عالمي أصبح، في بعض الأحيان، جزءًا من أدوات الإخفاء والتواطؤ. بين طفل غزيّ يبحث عن مأوى، وطفلة سورية ربما لا تتذكر اسمها الأصلي، تتقاطع الحكايات في مأساة واحدة.
وفي الوقت الذي يحتدم فيه الجدل في العواصم الغربية حول دعم أو إدانة أطراف الصراع، يبدو أن القصص الإنسانية لا تزال الأكثر غيابًا عن المشهد، حتى مع تصاعد المآسي. الصحف السويسرية، عبر هذا النوع من التقارير، تبدو كأنها تدق ناقوس الخطر: الشعوب تُذبح مرتين… مرة بالسلاح، ومرة بالنسيان.