وسط ركام الحرب والدمار الذي لا يهدأ في قطاع غزة، بدأت أصوات من داخل القطاع ترتفع في تحدٍّ نادر، مطالبة برحيل حركة حماس عن السلطة، في مؤشر متنامٍ على تآكل شعبيتها بين سكان غزة الذين يرزحون تحت وطأة حرب طاحنة وظروف إنسانية مأساوية.
في تقرير نشرته صحيفة تاجيس أنتسايجير السويسرية، سلّط مراسل شؤون الشرق الأوسط، برند دوريس، الضوء على موجة من الاحتجاجات التي شهدتها شوارع غزة خلال الأسابيع الأخيرة، حيث خرج مئات، وربما آلاف من الفلسطينيين والفلسطينيات، في تظاهرات نادرة وهم يهتفون بشعار "برا برا"، أي "اخرجوا"، في إشارة مباشرة إلى رفضهم لاستمرار حماس في السلطة.
الصحيفة نقلت شهادات من داخل غزة، من بينها شهادة الطبيب محمد ناصر، الذي كان من بين المشاركين في هذه الاحتجاجات.
قال ناصر للصحيفة: "لقد شاركت لأنني أرى أن على حماس الاستقالة فورًا. يجب إنقاذ ما تبقى من القطاع وبدء عملية إعادة إعمار حقيقية".
وأضاف: "الحركة فقدت الكثير من الدعم الذي كانت تحظى به في السابق. الناس الآن يرون بوضوح أن حماس لا تبالي بموت الآلاف من المدنيين. ما يشغلها فقط هو البقاء في السلطة".
رغم أن حماس لا تزال تحكم بقبضة أمنية مشددة وتسيطر على كافة مفاصل الحياة في القطاع، إلا أن الصحيفة السويسرية أشارت إلى أن ما يجري في الشارع الغزي قد يكون مؤشرًا على تصدّع داخلي آخذ في التوسع، وإن كان يصعب قياسه بدقة بسبب القمع والخوف من الانتقام. فمعظم السكان، بحسب التقرير، يعانون من الإرهاق التام نتيجة الحرب المستمرة، والتجويع، والنزوح، ويركزون فقط على البقاء على قيد الحياة.
في هذا السياق، لفت المراسل إلى أن وسائل الإعلام التابعة لحماس تهاجم أي احتجاج باعتباره "خيانة"، وتتهم المشاركين فيه بأنهم "عملاء لإسرائيل". كما نقل عن مصادر محلية أن الحركة قد قتلت أحد المتظاهرين على الأقل، وهددت آخرين، في محاولة لترهيب من تسوّل له نفسه الخروج إلى الشارع.
وبينما تتزايد المعاناة داخل غزة، يبدو أن قادة حماس الذين يعيشون في الخارج، في دول مثل قطر وتركيا، ينظرون إلى المشهد من زاوية مختلفة. ينقل التقرير عن المراسل قوله إن هؤلاء القادة "يعتبرون أن الحرب تسير كما ينبغي"، ويرون أن "إسرائيل تزداد عزلة على الصعيد الدولي، وأن كل مجزرة بحق المدنيين تقوّض شرعية الدولة العبرية أخلاقيًا"، وفق تصوراتهم. وبهذا المنطق، يصبح سكان غزة بالنسبة لهؤلاء مجرد أدوات في المعركة، أو كما وصفهم التقرير "كومبارس" في مشهد أكبر، ووقودًا للمدافع.
الطبيب ناصر لم يتوقف عند الوضع الحالي، بل قدّم وصفًا صريحًا لما كان عليه الحال قبل الحرب، مشيرًا إلى أن غزة كانت تحت "نظام أقرب إلى الحكم العسكري"، غير أنه أقر بأن جزءًا من السكان كان يؤيد هذا الوضع في بداياته، خاصة بعد الانتخابات التشريعية في 2006، والتي حصلت فيها حماس على حوالي 44% من الأصوات. لكن ناصر يؤكد أن ذلك التأييد لم يكن بالضرورة دعمًا لسياسات الحركة، بل كان إلى حد كبير تصويتًا احتجاجيًا ضد حركة فتح والسلطة الفلسطينية، حسبما أورد التقرير.
وتستند الصحيفة في تقييمها لتراجع شعبية حماس إلى استطلاع رأي حديث أجراه "معهد التقدم الاجتماعي والاقتصادي الفلسطيني" (ISEP)، وأظهر أن نسبة التأييد للحركة في غزة لا تتجاوز حاليًا 6% فقط. ورغم أن الاستطلاع شمل عينة صغيرة من 400 مشارك ومشاركة فقط، إلا أنه يُعد مؤشرًا إضافيًا على حجم التململ الشعبي داخل القطاع، وإن كان لا يمكن اعتباره تمثيليًا بدرجة كافية.
التقرير يختتم بإعادة تأكيد على دعوة الطبيب محمد ناصر، الذي يرى أن "إنهاء الحرب يتطلب أولًا أن تتخلى حماس عن السلطة"، في طرح يعكس مزاجًا متغيرًا داخل الشارع الغزي، حتى وإن لم يتحوّل بعد إلى موجة شاملة. لكن مجرد وجود هذه الأصوات، في بيئة تخنق فيها الحريات السياسية وتُلاحق فيها الانتقادات باعتبارها تهديدًا للأمن، يحمل دلالات عميقة على تغيّر حقيقي قد يكون في طور التشكل، رغم كل المحاذير.
وفي وقت لا تزال فيه أعمدة الدخان تتصاعد من غزة، ويعاني السكان من حصار متعدد الأوجه، يبدو أن المواجهة لم تعد فقط بين حماس وإسرائيل، بل بدأت تتكشف ملامح صراع داخلي بين الحركة وشريحة متزايدة من الفلسطينيين الذين باتوا يرون أن الخلاص يبدأ من الداخل.