01 - 05 - 2025

في وصف مصر 2025

في وصف مصر 2025

الحالة التي يخلقها الإعلام المصري في وصف الأوضاع الداخلية يصدق في وصفها القول بأنها"تجعل الحليم حيرانا" ، فرغم أنني أحاول قدر جهدي أن أكون موضوعيا في النظر إلى كل قضية إلا أنني وحين أزور المحروسة يصيبني التشكك في أحكامي، فحين أقارن ما أراه في الواقع، بما أسمعه وأشاهده في وسائل الإعلام (جلها في اتجاه واحد)، تصيبني حالة من التشكك في أحكامي حتى أنني أسأل ، هل أنا في وعيي وهل أنا على  صواب؟! 

ماتزال برأيي تلك الحكمة، التي أطلقها سائق " توك توك" في منطقة شعبية، في حوار مع قناة محلية ذات يوم، هي المرجعية الحقيقية لأي شخص واع، يحاول تفهم الأوضاع في مصر المحروسة، قال الرجل وقد قال صدقا" نتفرج ع التلفزيون نلاقي مصر فيينا (عاصمة النمسا)، ننزل  الشارع نلاقيها بنت عم الصومال".

والحقيقة أن ما قاله الرجل ذات زمن ، كانت تُسمع فيه أصوات مختلفة، ربما يكون قليلا في وصف ما يحدث اليوم، أخذا في الاعتبار معدلات التردي التي فعلت فعلها في البلاد منذ ذلك الوقت، فالحقيقة التي يراها ويدركها أصحاب الضمير،  هي أن الأمور ليست كما تصفها بروباجندا الإعلام المقيت ذا الاتجاه الواحد ، فهناك برأيي حالة من الكذب الكامل في وصف الواقع، قد تفوق التسعين بالمئة، حتى أنني أتصور أن هؤلاء المزيفين، يلتقطون الصورة الحقيقية التي يعيشها الناس في مصر، ثم يركبون صورة معاكسة لها تماما في المعامل، ليبثوها في كل اتجاه ضمن بروباجندا شاملة، في الصحة والتعليم والتوظيف، فكأنك حين تسمع وتشاهد، ترسم صورة لمجتمع يرفل في الرفاهية والرخاء،لكن حين تطأ أقدامك ارض الشارع الحقيقي، تصيبك حالة مزعجة من التشكك في أحكامك العقلية الموضوعية  حتى الجنون.

⦁ مشهد بروباجندا 1 : صوت المعلق في الإعلان الترويجي لمشروع حياة كريمة، على موجات الإذاعة الرسمية،  يقول إن برنامج حياة كريمة غير حياة أهل القرى، فأقام لهم المستشفيات ومشاريع الصرف الصحي ورصف الطرق وأن الناس هناك حققوا كل أمنياتهم ولم يعد لديهم مايتمنونه.

⦁  المشهد الواقعي الأصلي: زرت قريتي في صعيد مصر، وكان الانطباع الأول أن الوضع هو أسوأ من زيارتي السابقة قبل عام ، ساعتها وللحقيقة كان مشروع الصرف الصحي قد بدأ تنفيذه، كانت الحفارات تخرج باطن الشوراع الضيقة،  لمد انابيب الصرف الصحي ، خُربت الأرصفة الممتدة على الطرق الواصلة بين القرى والتي ظلت قائمة لسنوات وصاحب ذلك حملة ترويج وتصوير واسعة، لكن في النهاية وبعد انتهاء حملة التصوير، بقي الوضع على ماهو عليه فلا الشوارع بقيت على سوائها قبل الحفر، ولا المشروع انطلق، وقد رأيت بعيني حفرا عميقة على الطرق  التي تربط بين القرى والمدن على حالها، ولم يتم ردمها لتتحول إلى  مصائد خطرة للسيارات المارة على الطريق خلال الليل.

⦁      الخلاصة التي تبدو واضحة لكل ذي عينين والتي يتحدث عنها الواقع هي أن الحال في كل عام في قرى مصر يتردى عن الذي قبله .. أكوام القمامة تتراكم على جوانب الترع والمصارف والوحدات الصحية، التي كانت درة التاج في إنجازات، نظام الراحل جمال عبد الناصر وكانت يوما ما تعمل كخلية نحل، أصبحت مهجورة تمرح فيها الفئران، بينما مستشفيات المراكز تفتقر إلى أبسط مقومات العلاج فلا أدوية ولا أطباء.

⦁ مشهد بروباجندا 2 : صوت المعلق عبر الإذاعة الرسمية يقول   " إنت مش محتاج تروح السجل المدني .. ممكن تخلص كل أوراقك من البيت تطلع بطاقتك وتعمل توكيلك بكبسة زر. إحجز اونلاين ميعاد مسبق فى أى مكتب توثيق فى جميع أنحاء الجمهورية من حزمة خدمات التوثيق من منصة مصر الرقمية ،اتعرف على جميع خدمات منصة مصر الرقمية من خلال:www.digital.gov.eg أو اتصل بالخط الساخن على 15999"

⦁  المشهد الواقعي: عديد من  الأصدقاء ، الذين استخدموا المنصة الرقمية يؤكدون لي أنهم تمنوا  لو لم يفعلوا ذلك، إذ أن تجربة الدخول إلى المنصة، هي مأساة في حد ذاتها، حتى أن بعضهم قال إنه ألغى التطبيق، ثم قام بتثبيته مرة أخرى وحاول عدة مرات ولكن دون فائدة.

⦁ مشهد بروباجندا 3: المذيعة تقرأ وزير المالية يقول إن الوضع الاقتصادي في مصر يتطور للأفضل، و«المؤشرات تؤكد ذلك»، ويوضح أن معدل النمو ارتفع من 2.5% إلى 3.9% خلال الفترة من يوليو إلى ديسمبر 2024، وتراجع التضخم من 33.3% فى مارس 2024 إلى 13.6% فى مارس 2025، وحققت الصادرات غير البترولية نموًا بنسبة 33% بإيرادات تبلغ نحو 32 مليار دولار خلال الفترة من يوليو إلى مارس 2025.

⦁ المشهد الواقعي: خبراء مستقلون يقولون إن زيادة أسعار الوقود الأخيرة ستؤدي إلى موجة تضخمية جديدة، قد تشمل قطاعات العقارات والأغذية وأنشطة أخرى عديدة نتيجة ارتفاع تكلفة الإنتاج، وكذلك تكلفة النقل، متوقعين أن يظهر هذا التأثير خلال قراءة معدلات التضخم في الربع الأخير من هذا العام.

هذه بعض النماذج، لحالة تناقض المشاهد في مصر اليوم، وهي كثيرة ولايمكن حصرها، حتى باتت الفجوة بين الواقع والبروباجندا لايمكن ردمها، والمؤسف أنها تزداد اتساعا يوما بعد يوم، وهو أمر  يحمل مخاطر جمة على وطن بكامله، إذ أنه عند لحظة كشف معينة، خلال أزمة معينة يمكن أن ينهار كل شئ، وأول ما سينهار هو تلك الصورة الزائفة التي صنعتها البروباجندا، لدى جمهور  بسيط، بات أسيرا لصورة زائفة فالأزمات الشديدة هي التي تكسر الحاجز بين الحقيقة والصورة التي خلقتها البروباجندا.

أعتقد أن مصر مليئة بالخبراء الذين يدركون الفارق بين الإعلام والبروباجندا وأن هؤلاء الذين يحرسون مضمون شاشات مصر وصفحات صحفها يعرفون أن ما يضخونه ساعة بعد ساعة عبر  تيار موحد هو محض بروباجندا لها مخاطرها.

يعود أصل كلمة بروباجندا بالإنجليزية "Propaganda" إلى الكلمة اللاتينية  "كونغريقاتيو دي بروباجاندا فيدي" والتي تعني (مجمع نشر الإيمان)، وهو مجمع قام بتأسيسه البابا غريغوري الخامس عشر في عام 1622. وكانت مهمته نشر الكاثوليكية في الأقاليم.

غير أن معنى الكلمة تطور ليعني الترويج أو الدعاية بكثافة لفكرة معينة أو لقيادة  سياسية معينة والسعي للتأثير في الرأي العام والتلاعب بالحقائق من أجل دفع الناس إلى توجه معين  ويصف المفكر الأمريكي  نعوم تشومسكي البروباجندا بأنها "تنشر المعلومات بطريقة موجهة أحادية المنظور، وتوجه مجموعة مركزة من الرسائل بهدف التأثير على آراء وسلوك أكبر عدد من الأشخاص". 

الفارق بين الإعلام الحقيقي والبروباجندا واضح لكل صاحب قدر من الرؤية النقدية إذ أن الإعلام الحقيقي يبحث عن الحقيقة ويتأكد من المعلومة ويعطي الناس وجهات نظر مختلفة عن قضية معينة ليبنوا فكرة ورؤية منطقية حقيقية عما يدور حولهم.

بعيدا عن التفلسف فإن ما تشهده مصر حاليا هو مجرد بروباجندا محضة وأعتقد كما يعتقد كثيرون أنه من العبث إنفاق أموال طائلة على أعلام يحول الناس إلى جماهير شذر مذر غير واعية غارقة في أوهام قد تبددها أية أزمة حقيقية تمر بالمجتمع والثابت دوما في كل المجتمعات أن تشجيع الناس على تكوين رؤية نقدية وتمحيصية تجاه مايدور حولهم يجعلهم أكثر وعيا وقدرة على أن يصبحوا  في وقت الأزمة ظهيرا قويا لنظامها السياسي.

نحن لسنا بحاجة إلى إعادة اختراع العجلة ولا أن نصنع من جديد مأساة مررنا بها سابقا بفعل إعلام دعائي موجه والجميع يتذكرون تجربة  عام 1967 وكيف عكف الإعلام الدعائي الموجه على صنع صورة زائفة وقلب الحقائق حتى جاءت لحظة الكشف والإفاقة ليكتشف حتى المثقفون أن ما عاشوا فيه كان مجرد وهم كبير وكيف انتهى الأمر بكثير منهم للغرق في ظلمة الاكتئاب بفعل ألام الصدمة الناتجة عن الفجوة بين الوهم والحقيقة.
---------------------------------
بقلم: أحمد عبدالرازق
(نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك)

مقالات اخرى للكاتب

في وصف مصر 2025