يرى كثيرٌ من عُلماءِ النَّفسِ أنَّ مرحلةَ الطُّفولة هي الأساس في تشكيل وعينا ورؤيتنا وصلتنا بالحياة، وإحساسنا بها، وتشكيل الرؤية والحلم، وأنّها تظلّ ساكنة في داخلنا تحرّكنا دون أن نشعر بها، ولا أنْ نتذكَّر تفاصيلها، ويرىعالم النّفس الأمريكيّ "كارل روجرز" أحد روّاد علم النّفس الإنسانيّ ت 1987م، أنَّ بيئةَ الطُّفولة تسكننا، وأنَّ كلَّ صدماتِ الطُّفولة تظلّ كامنة فينا توجِّه أفعالَنا وسلُوكنا دون أنْ نعيَ ذلكَ، وبخاصَّةٍ الأطفالُ ذوو الحساسية المرهفة، الذين يعيشُون في بيئاتٍ ذاتِ طبيعةٍ خاصَّةٍ..!
وربَّما كان الرئيس السادات أحد الشّخصيَّات العبقريَّة التي لفتت أنظار الساسة والمفكرين والفلاسفة والعسكرين اتّفاقًا واختلافا وسوّدتْ في سيرتهِ آلاف الصَّفحاتِ، وقد ترك سيرة ذاتية بعنوان" البحث عن الذّات"، وكتب أنيس منصور مجلّدا ضخمًا عنه بعنوان" من أوراق السادات" طبعته دار المعارف، كما كتب من وجهة نظر مختلفة يوسف إدريس كتابًا صادمًا يتناص في عنوانه مع سيرته...!
وأيًّا كان الأمر فسيظلّ الفيلم الذي أخرجه محمد خان سنة 2001م، وكتبه أحمد بهجت، ووضعَ الموسيقا التَّصويريَّة له العبقريُّ ياسر عبدالرحمن، وتصوير المصور الكبير طارق التِّلمسانيّ، وركَّب مشاهدَهُ المتألقُ، دائمًا، خالد مرعي، وبطولة الاستثنائيّ أحمد زكي..!
ولعلَّ السِّينما العربيَّة لم تشهدْ في تاريخها مُمثلًا عبقريًّا مثل أحمد زكي، وقد برعَ فيما برعَ في تقمُّص شَخصِيَّات مؤثِّرة في تاريخنا الوطنيّ والسِّياسيّ والثَّقافيّ؛ فيما عُرف بأفلامِ السِّيرة الذَّاتيَّةِ؛ كتجسيدهِ شَخصيّتي الرَّئِيسَينِ: عبدالنَّاصر والسَّادات، فَضلًا عَن تقمُّصِهِ شَخصيَّة عميد الأدب العربيّ بعبقريَّةٍ فذَّةٍ في مسلسلِ "الأيَّام"..!
وفي فيلم السَّادات يقدِّم محمد خان ثلاثة مشاهد عبقريَّة لم يلتفتْ إليها أحدٌ فيمَن قرأْت لهم في نقدِ هذا الفيلم، وهي مشاهدُ السَّاداتِ طِفلًا، وقدْ وزّعها خان بحرفيَّةٍ يغبطُ عليها زمنيًّا، ومكانيًّا، وتصويرًا، وديكورًا وإضاءةٍ، وملابس وألوان وإكسسوارا، وقبل ذلك وبعده موسيقى تصويريَّة..!
يأتي المشهد الأوَّلُ في الدَّقيقة الواحدة والسَّبعين حين يحتدمُ النِّقاش بين مجلسِ قيادة الثَّورة سنة 1954م حول قضيَّة الدّيمقراطيَّةِ وأشكال الحُكم، ويذهبُ السَّاداتُ لما ذهَبَ إليه جمال الدين الأفغاني من فكرةِ المستبدِّ العادلِ أو المستنير؛ فيرى أنَّ ثمة شَكلينِ للحُكم؛ هُما: الديمقراطيَّةُ بأنماطها وطرائقها المعروفةِ، والشَّكلُ الآخرُ الذي يراهُ مناسبًا هو السَّيطرةُ المستنيرةُ حتَّى تحينُ لحظةُ الدّيمقراطيَّةِ المناسبةِ، ويتَّهمه أحدُ أعضاء مجلس قيادة الثَّورة بالفذلكة؛ فيقفُ بعيدًا أمام النَّافذة ليعلوَ صوت الكمنجات الجماعيَّة لتنتهي بعزف كمنجة واحدة لياسر نفسه منفردًا (صولو) ليُجسِّد انعزالَهُ عن الجماعةِ، وشعورهِ بالوحدةِ، ليستدعي الطّفل الذي بداخله ، بكاميرا التّلمساني مع إضاءات نهاريَّة لنهار تشوبه غبرة يقتحمها طفل وهو يجري خلف محراثٍ معلقٍ في حمارٍ يسحبهُ شخصٌ آخرُ، يعقبها صورته جالسًابائسًا مستندًا على حائط متهالكٍ قديمٍ، ولكنّه يحلّق في الأفق البعيد وسط الزّرع الذي يبعث على الأمل في مستقبل أخضر لهذا البؤس الذي جسَّدتهُ وتريّاتٌ حزينةٌ لتعمِّق أحاسيس الفَقر وتعود بالضَّابط الحالم إلى طفولتهِ البريئةِ المتطلِّعةِ؛ ليعقبهُ مشهدٌ يحدِّثُ فيه زوجتهُ، السَّيدة "جيهان" بأنَّه يريد أنْ يخرج من البلد ليعيشَ في لُبنان لإحساسهِ باليأسِ المطبقِ، ويردِّدُ عليها أنَّه قد قرأَ كلمةً، قديمًا، لم يفهمها مفادها:"أنَّك يجبُ أن تحلمَ بحذرٍ تحَسُّبًا لتحقُّقِ حُلمِك"؛ موضِّحًا أنَّ حُلمهُ ينكسرُ أمام صِراعِ بعض رجالِ مجلسِ قيادة الثَّورة الذين لم يتورَّعوا عن مدِّ أيديهم إلى كلِّ ما استطاعُوا إليه سَبيلًا...!
ويأتي المشهد الثَّاني للطِّفل بعدَ ساعتين ودقيقتينِ؛ أي بعد فترة متساويةٍ، تقريبًا، من المشهد الأوَّل، بعد أن قامَ السَّادات بخططِ الخِداعِ الاستراتيجيّ، وأوصلَ خبر زيارتهِ إلى الأممِ المتَّحدة في أكتوبر 1973م لإسرائيلَ، ونشرَ أخبار عُمرة الضُّباط في الصَّفحة الأولى من الأهرامِ، ولم يتبقَ له إلَّا أخذُ قرار العُبور، وتأتي، هُنا، صُورة السَّادات الطِّفل، وهو ينظر إلى الأُفقِ البعيدِأمامه لا يحجبهُ سوى حائلٍ من الأشجار الملتفَّة؛ فيأتي المشهد اللَّاحقُ، وهو يعلن اتّخاذ قرار العبُور، واللَّافت أنَّ إيقاع الكمنجات يهدأُ عن المشهدِ الأوَّل، لتتوافقَ مع حالةِ التَّعقُّل والهدُوء، والسَّكينة في نفسِ الطِّفلِ الذي حرصت كاميرا التّلمسانيّ أن يأتي ظلًّا للرّئيس والعكس؛ فلا يلبث الرّئيس أن يكون هو امتداد لظِلّ الطّفلِ؛ بملابسهِ التي تتِّضِح خطُوطُها عنها في المشهدِ الأوَّل في حين تكونُ ملابسِ الرّئيس نفسهِ رماديَّةٌ فوقَها عباءةٌ سوداءُ، وكانَّ القرارَ صدر من الطّفل البريءِ النَّقيّالحالم إلى الرَّئيس الذي يعاني ضبابيَّةً في الموقفِ، ورُؤًى سَوداءَ من مخاوفِ تكرار أخطاءِ الماضي مؤكّدًا لمخاطبهِ أنَّ الشَّعْبَ لن يسامَحهُ، ويهتفَ برجوعهِ إنْ تكرَّر خطأُ مَن سبقَهُ....!
وفي الدَّقيقة المائة والسّتين قُبيل نهايةِ الفيلم بخمسِ دقائق يأتي المشهدُ الثَّالثُ للطّفلِ، والرئيس نائمٌ صباحَ يوم السَّادس من أكتوبر 1981م، ويظهرُ له الطِّفل في حُلمهِ مشَمّرًا ثوبَهُ في تموّج لخطوطهِ التي كانت واضحةً مستقيمةً في المشهدِ السَّابقِ، وهو يجري لإنقاذ مجهولٍ، ولكنَّ الصُّور تتابعُ لتغطِّيَ صُورة الطِّفل ليحلَّ محلَّها صورةُ الحفيدِ وهو يوقظُ جدَّه البطلَ في يوم العبُورِ ليلقَى مَصرعَهُ دونَ أن يتمكّنَ الطّفلُ من إنقاذهِ...!
فهل نام الرّئيسُ عن نداءاتِ الطّفلِ داخلَهُ لإنقاذِ نفسهِ؛ فلم ينتبه لهُ في قرارارتهِ، وملابسهِ، واحتياطاتِهِ الأمنيَّةِ، لقد كان الطفلُ يسعى إلى إنقاذِ ظلِّهِ قبل أن يتلاشَى من الأرضِ، ولكن السَّيف يسبقُ العذلَ، ويخفتُ صوتُ الكمنجاتِ، لينطلقَ صوت السَّادات مودِّعًا في يومِ نَصرهِ...!
وتتصادى الموسيقى التصويرية مع كاميرا طارق التلمساني العبقريَّةِ، والإضاءات الموزَّعة بعناية لتنقلنا من حالةٍ لحالةٍ على خلفيَّة موسيقى ياسر عبدالرحمن ليودّع البطلُ يوم انتصارهِ، ويظلُّ الطِّفلُ رمزًا لحلمِ الوطنِ الذي يسعَى للتّحقُّقِ والوصولِ لبرّ الأمانِ، بعد أن عبرَ القناةَ، وهدم الخطَّ المنيعَ، ولم يعدْ أمامه إلَّا الأشجارُ الكثيفةُ التي مازالت تحجبُ رؤيةَ الطِّفل، وتتعالَى الآلاتُ الوتريَّة والنُّحاسيَّةُ فجأةً لتعلنَ أنَّ الطِّفلَ مازال قادرًا على القَفزِ نحو الأفقِ البعيدِ ...!
---------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (د. محمد عمر)
* أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش.