رغم نجاح الصين في تحويل الحرب التجارية مع أمريكا إلى فرصة لتعزيز مكانتها العالمية، إلا أن التحديات الداخلية تظل العائق الأكبر أمام طموحاتها، فبينما تواجه واشنطن ضغوطًا خارجية، تُواجِه بكين عاصفة مُزدوجة: أزمات بنيوية في الاقتصاد والمجتمع، قد تُهدد استقرار النظام ذاته إن فشلت في احتوائها. كيف تُدار هذه الجبهات الخلفية، وهل يمكن لـ"الصين القوية" أن تظل كذلك إذا انهارت من الداخل؟
فرغم النجاحات، لا تزال الصين تواجه تحديات جسيمة مثل:
- التباطؤ الاقتصادي: انخفاض معدل النمو من 6% إلى 5% عام 2023.
- أزمة الديون: ديون محلية تتجاوز 300% من الناتج المحلي.
- الضغوط الديمغرافية: شيخوخة السكان وانخفاض معدل المواليد.
لكن قدرة الصين على تحويل الأزمات إلى فرص لا تزال بارزة، كما حدث في أزمة كوفيد-19، حيث زادت الصادرات الطبية بنسبة 30% عام 2020.
التأثير على سلاسل التوريد العالمية وإعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية
أدت الحرب التجارية إلى زعزعة سلاسل التوريد العالمية التي اعتمدت لعقود على النموذج الصيني القائم على التصنيع منخفض التكلفة، وفقًا لبنك التسويات الدولية، 30% من الشركات العالمية بدأت في اعتماد استراتيجية "الصين + 1"، بتنويع إنتاجها إلى دول مثل فيتنام والهند والمكسيك. لكن الصين لم تكن مجرد متفرج؛ فقد حولت الأزمة إلى فرصة لتعميق اندماجها في الاقتصادات الناشئة عبر:
- مشاريع التصنيع المشترك: مثل شراكة "BYD" الصينية مع "Toyota" في تايلاند لإنتاج سيارات كهربائية.
- منصات التجارة الإلكترونية عبر الحدود: كمنصة "AliExpress"، التي سجلت نموًا بنسبة 60% في مبيعاتها إلى أوروبا عام 2021.
- الاستثمار في البنية التحتية اللوجستية: تطوير موانئ مثل "قوانغتشو" لتعزيز صادراتها إلى أفريقيا.
هذه الخطوات قلصت اعتماد الصين على السوق الأمريكية من 21% من إجمالي صادراتها عام 2018إلى 16% عام ،2023 وفقًا لصندوق النقد الدولي.
الدور المتغير للمنظمات الدولية: الصين واستعادة شرعية النظام الليبرالي
في مواجهة النزعة الأحادية الأمريكية (unilateralism)، عملت الصين على تعزيز شرعيتها كمدافعة عن التعددية القطبية، عبر الآتي:
- إصلاح منظمة التجارة العالمية: حيث اقترحت بكين عام 2021 حزمة إصلاحات لتقييد استخدام "رسوم الأمن القومي" التي استخدمتها إدارة ترامب.
- قيادة تحالفات جنوب-جنوب: مثل مجموعة "بريكس"، التي زادت تجارتها البينية بنسبة 18% خلال عام 2020.
- الاستثمار في المؤسسات المالية البديلة: كبنك التنمية الآسيوي ومصرف "آسيا للاستثمار في البنية التحتية"، الذي مول مشاريع بقيمة 40 مليار دولار في دول نامية منذ 2020.
لكن هذه الجهود تواجه انتقادات بسبب تناقضها مع ممارسات الصين الداخلية، مثل دعم الصناعات المحلية بشكل غير متناسب، ما يُنظر إليه كتعددية انتقائية.
المعركة الإعلامية: صناعة السردية الصينية في مواجهة الخطاب الأمريكي
في حرب الروايات، أدركت الصين أن السيطرة على السردية الدولية جزء من المعركة، لذلك ركزت على:
- تعزيز وسائل الإعلام العالمية: مثل "CGTN" و"China Daily"، التي توسعت تغطيتها بنسبة 200% في أفريقيا وأمريكا اللاتينية منذ 2018.
- استخدام منصات التواصل الاجتماعي: حيث وصلت حسابات الدبلوماسية الصينية على "تويتر" إلى 20 مليون متابع عام 2023، مقابل 3 ملايين عام 2018.
- الترويج لما يسمى "حلم صيني" بديل عن "الحلم الأمريكي": عبر إبراز قصص نجاح اقتصادي في أفريقيا، مثل خط السكك الحديدية "مومباسا-نيروبي" في كينيا.
ورغم ذلك، لا تزال الصين تعاني من فجوة ثقافية في التأثير الإعلامي مقارنة بأمريكا، خاصة في الغرب، حيث تُصور غالبًا على أنها "الآخر المهدِد".
الأبعاد الاجتماعية: كيف تأثر المجتمع الصيني بالحرب التجارية؟
لم تكن التحديات اقتصادية بحتة؛ فقد خلفت الحرب التجارية آثارًا ديموغرافية واجتماعية عميقة مثل:
- هجرة العمالة؛ نقلت شركات مثل "Foxconn" جزءًا من إنتاجها إلى الهند، ما أثر على 500 ألف وظيفة صينية.
- تقلص الفرص في القطاع الخاص؛ انخفضت أرباح الشركات الصغيرة والمتوسطة بنسبة 15% عام 2019، وفقًا لإحصائيات رسمية.
- تصاعد الخطاب الوطني؛ استغلت الحكومة الصينية الأزمة لتعزيز التماسك الداخلي عبر حملات مثل "التضامن ضد العدوان الخارجي"، التي ارتفعت شعبيتها بين الشباب بنسبة 40%.
ردًا على ذلك، أطلقت الصين حزم تحفيز بقيمة 500 مليار دولار عام 2022 لدعم الشركات المتضررة، مع تشديد الرقابة على المنصات الناقدة لتجنب الاحتجاجات.
البيئة كضحية جديدة: الصراع التجاري وتأجيل أجندة المناخ
أدت الحرب التجارية إلى إبطاء التعاون الدولي في مكافحة التغير المناخي، حيث:
- تجميد مشاريع الطاقة النظيفة المشتركة؛ مثل تعليق مشروع "الطاقة الشمسية عبر المحيط الهادئ" بين الصين وكاليفورنيا.
- تصاعد التنافس على الموارد الخضراء؛ كالليثيوم والنحاس، الذي ارتفع استيراده الصيني من أمريكا اللاتينية بنسبة 35% منذ 2020.
- استخدام البيئة كسلاح تجاري؛ فرضت أمريكا قيودًا على تصدير تكنولوجيا الطاقة الشمسية الصينية بدعوى "عمالة الإيغور القسرية".
واستطاعت الصين تحويل التحدي إلى فرصة عبر زيادة استثماراتها المحلية في الطاقة المتجددة إلى 380 مليار دولار عام 2022، متفوقةً على أمريكا للمرة الأولى.
السيناريوهات المستقبلية: ماذا بعد؟
مع استمرار الحرب التجارية تحت إدارة ترامب، تظهر ثلاثة سيناريوهات محتملة:
- الانفصال التدريجي: استمرار تقليل الاعتماد المتبادل، مع تحول أمريكا نحو "إعادة التصنيع" المحلي، والصين نحو تعميق شراكاتها الأوراسية.
- التصعيد المتقطع: اندلاع حروب تجارية فرعية في قطاعات مثل الرقائق والذكاء الاصطناعي، مع حظر صيني لصادرات المعادن النادرة إلى أمريكا.
- التعايش التنافسي: توازن غير مستقر، حيث تتنافس القوتان دون مواجهة مباشرة، مع تعاون في قضايا كالمناخ والأوبئة.
وأيًا يكن السيناريو، يبدو أن الصين تعتبر نفسها الأقدر على تحمل تكاليف الصراع الطويل، مستفيدةً من نظام سياسي لا يواجه ضغوطًا انتخابية قصيرة المدى.
الخاتمة: إعادة تعريف العولمة في ظل القطبية الثنائية
- الحرب التجارية لم تكن مجرد نزاع على العجز التجاري، بل معركة وجودية حول من سيسيطر على قواعد النظام العالمي الجديد.
- الصين تدخل الجولة الجديدة من الحرب التجارية وهي أقوى تكنولوجيًا، وأكثر تنوعًا في تحالفاتها، لكنها أيضًا أكثر عرضة لضغوط داخلية بسبب:
• انفجار فقاعة العقارات؛ التي لا تزال تمثل 25% من الاقتصاد.
• الاحتجاجات العمالية؛ نتيجة خسارة مليون وظيفة في قطاع التصدير أول عام 2025.
• التوترات مع تايوان؛ التي قد تحول الحرب التجارية إلى مواجهة عسكرية مفتوحة.
- في المقابل، يواجه ترامب تحديين؛ انقسام سياسي حاد في الداخل، واتحاد أوروبي متردد في الانحياز الكامل لأمريكا بعد تجربة المرحلة السابقة، والنتيجة المحتملة؛ ليست حربًا تجارية تُفْحَم فيها الصين، ولا انتصارًا أمريكيًا ساحقًا، بل نظامًا عالميًا جديدًا تُقاس القوة فيه بالقدرة على التحمل، لا بالهيمنة الأحادية.
- وبينما ركزت أمريكا على العقوبات قصيرة الأجل، بنت الصين نظامًا اقتصاديًا وتكنولوجيًا قادرًا على الصمود في حرب باردة جديدة.
- الصين، بدمجها بين الصبر الاستراتيجي والابتكار التكنولوجي، تثبت أنها ليست لاعبًا عابرًا، بل قوة قادرة على إعادة صياغة العولمة وفق مصالحها.
- تفضل الصين التحرك ببطء وحساب، بينما تفضل أمريكا الضربات السريعة، ولكن في الاقتصاد كما في السياسة، التاريخ يُكتب غالبًا بمن يمتلك الرؤية الأطول.
- نجاح الصين النهائي سيعتمد على قدرتها في تجاوز التناقضات الداخلية، بين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، وبين الطموح العالمي والقيود البيئية.
- في المقابل، تواجه أمريكا تحديًا وجوديًا مماثلًا؛ فهل تستطيع الحفاظ على هيمنتها عبر الانكفاء الحمائي، أم أن عصر الهيمنة الأحادية قد ولى؟ الإجابة قد تُحدد ليس فقط مصير البلدين، بل مصير النظام الدولي ككل.
رؤية استشرافية
في النهاية، تُظهر الحرب التجارية أن الصين تعلمت دروس التاريخ جيدًا، فالإمبراطورية الرومانية لم تسقط بسبب الغزوات الخارجية، بل بسبب التصلب الداخلي، لذلك تُركِّز بكين على أن تكون العاصفة التجارية فرصة "لتليين" اقتصادها، بينما تُصلب مناعة نظامها السياسي، كما تعلم أن المعركة الحقيقية ليست مع ترامب، بل مع الزمن، فكل عام يمر يُقرِّبها من تحقيق اكتفاء تكنولوجي، ويُبعد أمريكا عن حلم "إعادة التصنيع"، ولكن النجاح النهائي سيعتمد على ما هو أصعب من المواجهة التجارية؛ إصلاح النظام المالي الهش، واحتواء الغضب الاجتماعي، وتحويل الصين من دولة مصنعة إلى أمة مُبتَكِرة، وترامب قد يعود دائمًا، لكن الصين باتت تعرف طريقها جيدًا في لعبة الشطرنج التي لن تنتهي.
أما أمريكا فما زالت تتأرجح بين استراتيجيتين؛ استعادة مجد العولمة الليبرالية، أو تبني واقع القطبية الثنائية، والمعركة الحقيقية ليست فيمن سيفوز، بل فيمن سيبقى قادرًا على إعادة اختراع ذاته قبل الآخر.
-----------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش
اقرأ أيضا: كيف أعادت بكين تشكيل قواعد الحرب التجارية مع أمريكا؟