يصدمك العنوان من أول وهلة .. ولكنه من إبداع المستشرق الفرنسي العظيم روجيه جارودي الذي اعتنق الإسلام بداية الثمانينات عن قناعة وإيمان .. وعندما تأمل في وجه الحضارة الغربية الحديثة اكتشف تجردها من الروح وانصرافها عن أصول المحبة ومبادئ الأخلاق لتغرق حتى الثمالة في المنطق المادي، وتحكم قرارات أنظمتها السياسية ومصائر شعوبها حركة رأس المال والتجارة وسيادة أحكام السوق في كل المعاملات والبورصات اليومية اللاهثة!.
كل شئ مطروح للشراء والبيع في سوق ضخمة لاتعرف سوى لغة المال وتعبد الأرقام ويتقرب التجار ورجال الأعمال وكبرى الشركات والكيانات الاقتصادية لها زلفى .. وتتطور الأجيال وتتبدل وجوه الحكام ويولد قادة وينبت زعماء من رحم هذه البيئة الخصبة بالإحصائيات وأسهم الصعود والهبوط، ولانشهد أمامنا إلا مجتمعات تسلم رقابها ومستقبل أبنائها لشراهة البنكنوت وجشع الاحتكار .. وبينما يسخر جارودي من هذا العالم الذي رفع شعار "لا إله إلا السوق" مبكرا وارتمى في أحضان الشيطان بكل إغرائه وإغوائه .. تنتعش ذاكرتنا الحية بنماذج الاقتصاد الوطني وفلسفة بناء الإنسان من موارد وثروات الدولة مثلما آمن وعمل رائد بنك مصر بشركاته ومشروعاته التنموية طلعت باشا حرب، مما دفع المحتل البريطاني إلى إشهار مخالبه وإجباره على الاستقالة لتحطيم حلمه وحلم المصريين من ورائه .. إلا أن الفكرة النبيلة لم تمت ولم يقتلها رصاص الغدر والاستعمار .. وتفرعت منها أغصان مجموعات اقتصادية "عصامية" أبرزها تلك التي فتحت أبواب الرزق الحلال لآلاف العمال من"كنز" تجارة مشروعة ومريحة في أسعار بضائعها تصل إلى البسطاء ومحدودي الدخل وتوارثها الأبناء والأحفاد ليكملوا المسيرة ويحافظوا على السمعة النظيفة الفائزة بماركة "العربي" المسجلة!.
- ما بين "جنة" هؤلاء، و"سوق" هؤلاء تختار الأمم مساراتها وتحسم مصائرها .. بل ويمكن بشجاعة رأس المال الحر، لا العبد، أن ترسم خارطة طريق التقدم والازدهار وإستراتيجية التنمية المستدامة المثالية .. ومنها يستطيع أن يفتخر جارودي بأنه انتمى إلينا وإلى حضارتنا وأصالتنا في يوم من الأيام .. ولايندم على ذلك!.
---------------------------
بقلم: شريف سمير
* نائب رئيس تحرير الأهرام
مقالات سابقة في ملف "نحن والغرب"