في خضم التحولات الجيوبوليتيكية والاقتصادية العالمية، برزت الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة كواحدة من أبرز الصراعات التي ستُشكل ملامح القرن الحادي والعشرين، وتحت قيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومنذ ولايته الأولى وحتى الثانية، فرضت الولايات المتحدة سلسلة من الرسوم الجمركية القياسية على الواردات الصينية، وصلت ذروتها برفع جمارك بعض السلع لنسبة 104%، وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات التجارية الثنائية، وفي مواجهة هذه العاصفة، اختارت الصين نهجًا استراتيجيًا قائمًا على الهدوء والصبر الطويل، يعكس رؤية عميقة لتحويل الأزمة إلى فرصة، فكيف فعلت ذلك؟ وما الدروس المستفادة من إدارة بكين لهذا الصراع، صراع العمالقة في عصر التعددية القطبية؟
السياق التاريخي: من الشراكة إلى المواجهة
قبل الحرب التجارية، كانت العلاقات الاقتصادية بين البلدين تتسم بالاعتماد المتبادل: الصين كمصنع عالمي، وأمريكا كسوق استهلاكية ضخمة، ولكن مع صعود الصين كقوة تكنولوجية منافسة، وتحولها إلى ثاني أكبر اقتصاد عالمي، بدأ التوتر يطفو على السطح، وفي 2018، أطلق ترامب رسميًا الحرب التجارية بفرض رسوم جمركية بنسب تتراوح بين 10-25% على سلع صينية بقيمة 200 مليار دولار، مدعيًا ممارسة الصين لسياسات تجارية غير عادلة، مثل سرقة الملكية الفكرية ودعم الشركات المملوكة للدولة، والرد الصيني كان حذرًا لكنه حازم، مع التركيز على تجنب التصعيد المباشر.
الاستراتيجية الصينية:
(1) الدبلوماسية الهادئة وتجنب الانفعال
أدركت الصين أن الرد العنيف على الرسوم الأمريكية سيعطي ترامب الذريعة لتصعيد العقوبات، خاصة مع توجهاته الشعبوية قبيل الانتخابات، لذلك تبنت بكين سياسة "الرد المتوازن"، وفرضت فيها رسومًا انتقائية على سلع أمريكية حساسة (كالسيارات الزراعية)، مع الحفاظ على قنوات اتصال دبلوماسية مفتوحة، كما استخدمت الصين منصات دولية مثل منظمة التجارة العالمية (WTO) لتقديم شكاوى ضد الإجراءات الأمريكية، مع تعزيز تحالفاتها مع الاتحاد الأوروبي ودول آسيان (ASEAN) عبر اتفاقيات مثل (RCEP)، أكبر اتفاقية تجارية حرة في العالم.
(2) إعادة هندسةالاقتصاد الداخلي
تحت شعار "التدوير المزدوج" (Dual Circulation)، أطلقت الصين خطة طموحة لتعزيز الاعتماد على السوق المحلية، عبر الآتي:
- تحفيز الاستهلاك الداخلي؛ برفع دخول الطبقة المتوسطة وتوسيع نظام الضمان الاجتماعي.
- تنويع الشركاء التجاريين؛ بزيادة الصادرات إلى دول آسيان بنسبة 7% عام 2020، مقابل تراجع الصادرات إلى أمريكا بنسبة 10%.
- مبادرة الحزام والطريق؛ حيث استثمارات بقيمة 1.3 تريليون دولار في مشاريع البنية التحتية عبر 140 دولة، لخلق شبكة تجارية بديلة،
وساهمت هذه الإجراءات في نمو الناتج المحلي الصيني بنسبة 2.3% عام 2020، بينما شهد العالم كله أسوأ ركود منذ الكساد الكبير.
(3) المعركة التكنولوجية وسباق الابتكار
أدركت الصين أن قلب المواجهة مع أمريكا هو السيطرة على التكنولوجيا المتقدمة، لذلك ضاعفت استثماراتها في البحث والتطوير إلى 2.4% من الناتج المحلي عام 2022، مع تركيز خاص على صناعات مثل:
- أشباه الموصلات: خطة طموحة لتحقيق اكتفاء ذاتي بنسبة 70% بحلول 2025
- الذكاء الاصطناعي: استثمارات بقيمة 150 مليار دولار بحلول 2030.
- شبكات الجيل الخامس: هيمنة شركة هواوي على 30% من السوق العالمية رغم العقوبات الأمريكية.
وهذه الجهود كانت تعكس رؤية "صنع في الصين 2025"، التي تهدف إلى تحويل البلاد إلى مركز ابتكار عالمي.
(4) الصبر الاستراتيجي مقابل التكتيكات قصيرة المدى
بينما اعتمد ترامب على صدمات جمركية سريعة لتحقيق مكاسب انتخابية، تعاملت الصين مع الأزمة كماراثون طويل عبر الآتي:
- المرونة في المفاوضات؛ حيث توقيع "الاتفاقية المرحلية الأولى" عام 2020، والتي سمحت للصين بتأجيل بعض التنازلات.
- استغلال الانقسامات الداخلية الأمريكية؛ في دعم قطاعات أمريكية متضررة من الرسوم، مثل المزارعين ومصنعي الإلكترونيات.
- الاستعداد لفترات الهدوء النسبي: بناء جسور مع الإدارات الأمريكية، مع الحفاظ على ثبات الموقف التفاوضي.
(5) جولة تجارية أكثر شراسة
ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بحلول 2025، ومع وعده بتصعيد الحرب التجارية ضد الصين، يُطرح سؤالًا محوريًا: هل ستكرر بكين استراتيجية "الصبر الاستراتيجي" التي اتبعتها بين 2018 و2020، أم ستتبنى أدوات أكثر جرأة في عالمٍ تغيرت معادلاته الجيوبوليتيكية والاقتصادية؟ الإجابة تكمن في تحليل التطورات التي شهدتها الصين خلال السنوات الماضية، واستعدادها لتحويل الدروس السابقة إلى خريطة طريق جديدة.
- تعزيز الاكتفاء التكنولوجي: من الدفاع إلى الهجوم، حيث أدركت الصين أن معركة أشباه الموصلات كانت نقطة ضعفها القاتلة خلال الجولة الأولى، وبحلول 2025، حققت شركة "SMIC" الصينية طفرة في تصنيع الرقائق بدقة 5 نانومترات، مدعومة باستثمارات حكومية تجاوزت 150 مليار دولار منذ 2021، كما أطلقت مبادرة "التكنولوجيا الوطنية الآمنة" لاستبدال البرمجيات الأجنبية في القطاعات الحيوية، مثل:
- أنظمة التشغيل: إحلال نظام "HarmonyOS" بديلًا عن "أندرويد" في الهواتف الذكية.
- الذكاء الاصطناعي: تعزيز استخدام منصات محلية مثل "Baidu AI" في المرافق الحكومية.
هذه الخطوات قلَّصت اعتماد الصين على الواردات التكنولوجية الأمريكية من 45% عام 2020 إلى 28% عام 2025، وفقًا لتقارير "جارتنر" (Gartner).
2. إعادة تشكيل التحالفات العالمية: من آسيا إلى الجنوب العالمي، حيث استفادت الصين من فوضى السياسة الأمريكية الخارجية المتقلبة، لتعزيز نفوذها عبر:
- توسيع مجموعة "بريكس": انضمام إندونيسيا والمكسيك كعضوين جديدين عام 2024، ما رفع حجم التبادل التجاري داخل المجموعة إلى 40% من التجارة العالمية.
- إحياء مبادرة "الحزام والطريق" ببُعد أفريقي: تمويل مشاريع بنية تحتية في نيجيريا وجنوب أفريقيا بقيمة 60 مليار دولار، مقابل ضمانات الوصول إلى موارد الطاقة والمعادن النادرة.
– الشراكات مع دول "الحياد الاستراتيجي": مثل السعودية والهند، عبر اتفاقيات تجارية مرنة تتجنب الاصطفاف المباشر ضد أمريكا.
3. الحرب الهجينة: دمج الأدوات الاقتصادية مع التكتيكات الإلكترونية، فلم تعد الحرب التجارية مقتصرة على الرسوم الجمركية؛ فالصين طورت أدوات ردع غير تقليدية، مثل:
- العملات الرقمية: استخدام "اليوان الرقمي" لتمكين دول من تجاوز العقوبات الأمريكية، كما فعلت إيران في صفقات النفط.
- القرصنة المضادة: تسريب وثائق تجارية أمريكية عبر مجموعات إلكترونية موالية لبكين، كتلك التي استهدفت شركة "بوينغ" عام 2024.
- حظر المعادن النادرة: تخفيض صادرات الصين من الليثيوم والغرافيت بنسبة 50% عام 2025، ما عطّل صناعة السيارات الكهربائية الأمريكية.
4. تفعيل "التدوير المزدوج 2": اقتصاد يحتمي بالداخل ويتوسع بالخارج، حيث أطلقت الصين المرحلة الثانية من استراتيجية "التدوير المزدوج"، والتي تركز على:
- تحويل المدن الصغيرة إلى مراكز استهلاك: عبر إعفاءات ضريبية لشركات التكنولوجيا التي تستثمر في مناطق غير ساحلية.
- تعزيز الاكتفاء الغذائي: زيادة الإنتاج المحلي من الحبوب بنسبة 15% عبر تكنولوجيا الزراعة الذكية.
- تصدير النموذج الصيني الرقمي: تصدير منصات مثل "TikTok" و"WeChat" كبوابات تجارية للشركات الأجنبية نحو السوق الصينية.
نتيجة لذلك، ارتفع الاستهلاك المحلي إلى 65% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2025، مقارنة بنسبة 55% عام 2020.
5. استغلال الانقسامات الأمريكية الداخلية: من لعبة الضغط إلى تفكيك التحالفات، حيث تعلمت الصين أن ترامب يعتمد على قاعدة شعبوية ترفض العولمة، لذلك وجهت بكين ضربات استهدفت مراكز القوى الداعمة له، مثل:
- إغراق السوق الأمريكي بسلع رخيصة: خفض أسعار الألواح الشمسية بنسبة 3% عام 2025، ما أثار غضب ولايات مثل تكساس التي تعتمد على الطاقة النظيفة.
- تأليب الشركات الأمريكية على إدارة ترامب: إبرام صفقات مع كيانات مثل "آبل" لإنشاء مصانع في الصين مقابل تخفيف القيود التصديرية.
- دعم الجماعات الضاغطة: تمويل حملات إعلامية في ولايات صناعية (ميشيجان، وأوهايو) ضد الرسوم الجمركية.
6. الاستعداد للسيناريو الأسود: ما الذي تفعله الصين إذا فشلت كل الحلول؟
وضعت بكين خطط طوارئ لأسوأ السيناريوهات، مثل فرض حظر تجاري كامل، وتشمل:
- التكامل مع التكتلات المعادية للدولار: تسوية التجارة مع روسيا وإيران باليوان أو العملات المشفرة.
- تفعيل "ممرات الشحن الخفي": استخدام سفن شحن تابعة لدول ثالثة (مثل بنما) لتجاوز العقوبات.
- التصنيع عبر الدول الصديقة: إنشاء مصانع "شبحية" في كمبوديا ولاوس تُدار عن بعد من شنزن.
-----------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش