الأغنية بوصفها نصًّا يمكن إعادة تفكيكها وسماعها بأكثر من قراءة، بل يمكننا أن نفهمها في أكثر من مساحة معنويةٍّ وشعوريَّة؛ فقد تكون القصيدة المغناة؛ عامية أو فصيحةً، عاطفيَّةً في ظاهرها، ووطنية سياسية في قراءة تفكيكية لأنساقها المضمرة؛ وهي قراءة تحتاج إلى جرأة في التفكيك؛ مع مراعاة السياقات اللغويَّة حتى لا نقع فيما أسماه الفيلسوف الإيطاليّ أمبرتو إيكو بالتأويل المفرط.
ويمكننا لتجريب هذه الفرضيَّة أن نجريها على أغنية عاطفية معروفة غنتها المطربة الكبيرة نجاة الصغيرة بعنوان:" في وسط الطريق" من كلمات محمد حمزة، وألحان بليغ حمدي، وكيف يمكننا أن نفهم هذه الأغنية على أنّها أغنية سياسية وطنية حملت رؤية وطن في مواجهة الهزيمة والعزم والتّخطيط للنّصر، وكيف عبرت الكلمات والألحان والتلوينات الصوتية للمطربة الكبيرة عن هذه البنية المضمرة، والخوض في المسكوت عنه دون إعلان يشوه الحلم الجميل، أو صراحة فجة، تحوّل الدّعوة الشّعريَّة الرّوحية الوجدانيَّة إلى خطابيّة مباشرة تفرغ العبقرية الفنيَّة من رسالتها، وتحوّلها إلى وعود زائفة أو خطابات زاعقة.
في سنة 1970م ، بعد الهزيمة بثلاث سنوات وقبل النصر بمثلها؛ أي في وسط الطريق، غنت نجاة الصغيرة كلمات محمد حمزة "في وسط الطريق"، وكلمات الأغنية عاطفية، يصحبها لحن يقع توزيعه الموسيقي بين اليأس والأمل، والحزن والفرح، وقد تألقت الفرقة الموسيقية في أن تنتقل من الصولو إلى الجماعي في سرعة خاطفة، وهكذا انتقلت المشاعر إلى الجمهور الواعي الذي طالب الفرقة أن تعيد اللحن تارة بعد تارةً، كأنه فهم مراد بليغ حمدي في لحنه العبقري الذي توزّعت جمله لتنقل العاشق الولهان من تجربته الفرديَّة إلى تجربة الوطن بأكمله؛ كما توزّعت الجمل بين الصولو والجماعي ...!
ثم يأتي صوت نجاة العبقري ليمور بين الإحساسين المتناقضين:
وفي وسط الطريق ووقفنا وسلمنا وودعنا يا قلبي
ورجعنا في طريق وحدينا ودموعنا في عينينا
وفي وسط الطريق ووقفنا وسلمنا وودعنا
ورجعنا في طريق وحدينا ودموعنا في عينينا
وفي وسط الطريق ووقفنا وسلمنا وودعنا
ورجعنا في طريق وحدينا ودموعنا في عينينا
وفي وسط الطريق ووقفنا وسلمنا وودعنا
ورجعنا في طريق وحدينا ودموعنا في عينينا
ودعنا الحبايب وفارقنا الحبايب
ودعنا الحبايب وفارقنا الحبايب
ووصلنا النهاية آه من قبل النهاية
يا عيني، يا عيني علينا يا قلبي
مقطع فيه رثاء للذات الفرديَّة وللأنا الجماعيَّة، ولشهداء الوطن الذين فارقونا، ثم تنتقل إلى مقطع يحمل معنى عتاب المسؤول ، الذي كان غاليا حقيقة على قلوب عشاق هذا الوطن، عن الهزيمة، وكل المسؤولين الذين كبدونا هزيمة غالية بجراح العمر، لا الصبر ينفع فيه، ولا الزمن يداويه، ولا الليالي، وكأن النصر هو اللقاء، والرجوع للطريق هو الحل الأمثل لوداع الأحباب الذين يستحقون أن نقول لهم كلمة وداع تحمل معنى اللقاء والحياة والبقاء:
غالي، غالي، غالي والجرح من الغالي
دي جراح العمر لا الصبر ينفع فيه
ولا الزمن يدويه ولا الليالي
غالي، غالي، غالي والجرح من الغالي
دي جراح العمر لا الصبر ينفع فيه
ولا الزمن يداويه ولا الليالي
غالي، غالي، غالي والجرح من الغالي
دي جراح العمر لا الصبر ينفع فيه
ولا الزمن يداويه ولا الليالي
غالي، غالي، غالي والجرح من الغالي
دي جراح العمر لا الصبر ينفع فيه
ولا الزمن يداويه ولا الليالي
وكأنَّ الرّثاء صادِرٌ عن الناجين الذين رجعوا من وسط الطريق في سيناء وحدهم، إلى الشّهداء المفقودين الذين لم يسعفهم الوقت لكلمة وداع أخيرة، في إحساس مرٍّ بضياع الأمل، والمرارة، مع تحميل المسؤول الغالي المسؤولية الكاملة في تضييع الحبايب الذين وصلوا للنّهاية من قبل النّهاية الطبيعية للمعركة التي كان يمكننا أن ننتصر فيها لو أننا فكّرنا معًا قليلًا:
ورجعنا الطريق وحدينا من غير كلمة وداع
كل واحد فينا حس إني أمله الحلو ضاع
ورجعنا الطريق وحدينا من غير كلمة وداع
كل واحد فينا حس إني أمله الحلو ضاع
ورجعنا الطريق وحدينا من غير كلمة وداع
كل واحد فينا حس إني أمله الحلو ضاع...
ويأتي المقطع الأخير ليمنح هذا الغالي لحظة دقائق، بل ثواني ليسمع كلمة العشاق الحقيقيين لهذا الوطن ليسمعها منأجل وطن بكامله نعشقه جميعا، وكان سيفرق الأمر كثيرًا لو التفت ثانيةً؛ لأن الحبّ اتفاق بين طرفين، والمحبوب يستحقّ أن ننتظر، ونسمع كلمة العشاق جميعًا ليتحملوا مسؤولياتهم تجاه هذا اللقاء المرتقب، حينئذ كان القدرُ سيكتب كلمة حلوة في سجل هؤلاء العشاق:
دقيقة واحدة كان يجرى إيه؟
ثانية واحدة كان يجرى إيه؟
لحظة واحدة كان يجرى إيه؟
دقيقة واحدة كان يجرى إيه؟
ثانية واحدة كان يجرى إيه؟
لو الزمن وفر فراقنا دقيقة واحدة كان يجرى إيه؟
لو القدر كتب نهاية حب حلوة كان يجرى إيه؟
لو الزمن وفر فراقنا دقيقة واحدة كان يجرى إيه؟
ولا تترك للمخاطب الذي أخذ القرار صولو أن يرد على سؤالها الملح، بل تأتي الإجابة الواثقة جماعية:
كان يجرى، ويجرى، ويجرى
كان يجرى حاجات كثيرة
كان يجرى، ويجرى، ويجرى
كان يجرى حاجات كثيرة
كان يجرى، ويجرى، ويجرى
كان قلبي ارتاح من الحيرة
كان يجرى، ويجرى، ويجرى
كان يجرى حاجات كثيرة
كان يجرى، ويجرى، ويجرى
كان قلبي ارتاح من الحيرة...!
-------------------------
بقلم: د.محمد سيد علي عبدالعال (د. محمد عمر)
* أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش.