بين بيروقراطية صامتة ونقابة غائبة.. معلمون يكسبون قضايا بأثر رجعي، وآخرون ينتظرون العدالة..
منذ أكثر من عقدٍ كامل، وتحديدًا منذ عام 2014، يعيش المعلم المصري داخل قوقعة مظلمة محكمة، لا تتغير فيها الأرقام إلا في دفاتر الدرجات وفواتير الكهرباء والمياه والغاز، بينما يظل راتبه الأساسي كما هو، متجمّد، منسي، بل مهان. ليست هذه مجرّد أزمة مالية، بل مأساة وجودية يعيشها المعلم، تكشف كيف نفكر في من يُفترض أنهم بناة العقول وحاملو مشاعل التنوير. نحن أمام جريمة بيروقراطية مكتملة الأركان. ولو كنا نظن أن المعلمين والمعلمات سوف يعوضون ذلك بالعائد من الدروس الخصوصية، فظننا خائب، بالفعل نسبة قليلة جدا - النجوم منهم فقط - يستطيعون ذلك، أما النسبة الأكبر فلا، بالإضافة إلى معلمين التربية الفنية والموسيقى والمجالات…إلخ، حدث ولا حرج، يحصل الغالبية على مرتبات تندرج تحت خط الفقر.
بدأت القصة حين تقرّر تثبيت المرتب الأساسي للمعلمين عند 2014، حيث التعجيل في وضع الموازنة وعدم مراجعة كادر المعلمين بشكل جيد وظهرت عبارات "الحد الأدنى للأجور" وإعادة هيكلة الأجور الحكومية" .. إلخ، حيث تم ربط الأساسي بالموازنة لسد العجز، لذلك تم تجميد مرتبات العاملين بالجهاز الإداري للدولة ومنهم المعلمين، لكن جميع الوزارات والهيئات قدمت حلًا لموظفيها اسمه الأجر المكمل عدا وزارة التربية والتعليم، فظل "الأساسي" جامدًا حتى الآن، أحد عشر عامًا وكأن الزمن توقف عند لحظة بيروقراطية عبثية لا أحد يعرف من يتحمّل مسؤوليته.
السؤال الذي يطرح نفسه على المؤسسات الرسمية: لماذا لم يتحرك الأساسي رغم التضخم، وتدهور الجنيه، وتضاعف الأسعار ربما ثلاث مرات على الأقل منذ 2014؟
يدور المعلم المصري في حلقة مفرغة، في ساحة الحكومة، يتقاذف المسؤولون كرة اللهب. وزارة التربية والتعليم تشير إلى الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، والأخير يتحدث عن وزارة المالية، والمالية تلقي بالكرة على مجلس النواب أو على تعليمات رئاسة الوزراء أو قوانين الخدمة المدنية.. إلخ. ويشير الجميع إلى عجز الميزانية، وكأننا في مسرحية عبثية، عليك أن تتخيل المعلم ك(سيزيف) الذي يحاول أن يزحزح أساسي مرتبه بكل طاقته المتهالكة من نقطة 2014 إلى نقطة 2025، لكنه يفشل بالطبع، وعلينا أن نتخيله سعيدًا وراضيًا وممتنًا وهو يقوم بتربية أطفالنا و تنشئة أجيالنا القادمة وتعليمهم، فهم أمل مستقبلنا، هذه المسرحية المأساوية بطلها الوحيد: المعلم.
ما الذي يعنيه تجميد "الأساسي"؟ تراجع حاد في الحقوق المستحقة، لأنها تحسب على أساس هذا الرقم المجمد. انخفاض في المكافآت السنوية والحوافز النسبية. ضياع كرامة مهنة بأكملها. هنا تتحول المسرحية إلى كوميديا سوداء حيث أساسي المرتب متجمد هناك على حساب 2014، بينما تكون الاستقطاعات والخصومات هنا على حساب 2025، تعنى ببساطة أن المعلم يخصم منه استقطاعات - ضرائب وخلافه - لمرتب لم يحصل عليه. هل هذا يعقل؟
في بلد ينفق المليارات على "تطوير التعليم" عبر الشاشات والتابلت والمنصات والقنوات.. إلخ، وهذا مهم وضروري، لكن لا أحد يسأل: كيف يمكن لمعلم محبط، منهك، مهدور الكرامة أن يطور عقل طفل ويقوم سلوك مراهق؟ كيف نزرع الثقة والمعرفة والاحترام والتقدير في تربة فقيرة ماديًا ونفسيًا؟ ليست قضية راتب هنا بل قضية الرؤية/ الفلسفة التي يُنظر بها إلى المعلم، يجب أن ينظر إلى التعليم كأمن قومي وينظر للمعلم ليس مجرد وظيفة إدارية، تحزنني هذه النظرة إلى المعلم كموظف في السلم الإداري، وليس "قائدًا تربويًا" في مشروع وطني للنهضة كما يستحق. تجميد راتبه يعكس تجميد رؤيتنا للتعليم، وتجميد تقديرنا للقيمة، وتجميد أي أمل في إصلاح حقيقي.
بعض المعلمين لجأوا إلى القضاء ضد هذا التجميد الجائر. وكما هو متوقع، كسبوا القضايا، وحكمت لهم المحاكم بحقهم في صرف فروق الأجر وفقًا للزيادات الدستورية. بل إن بعضهم بالفعل صرف مستحقاته. هذا لا يعني أنهم نالوا منحة أو هبة من أحد، بل نالوا حقًا ثابتًا في صلب القوانين والدستور.
وإذا كان الحق واضحًا لهذه الدرجة، فلماذا يُضطر المعلمون إلى خوض معارك قضائية فردية مرهقة؟ لماذا لا يتساوى الجميع تلقائيًا في دولة تحتكم إلى العدل وتهتم بالتعليم؟ وأين النقابة؟ أين دورها الأساسي في حماية حقوق المعلمين؟ هل تحولت إلى مقعد شرفي لا يتجاوز حدود البيانات والوعود الفضفاضة؟ تابعت وعود النقابة ومللت من قراءة كلمة " سوف " وبعدها كلام عظيم، جمل رنانة، أحلام، لكنها تظل كلمات، لا تسمن ولا تغني من جوع.
المعلم المصري لا يطلب امتيازات فوق الخيال، بل فقط العدالة. يطلب أن يعامَل كموظف في 2025، لا كظلّ لشخص في 2014. يطلب أن يُرفع الغطاء عن هذه المهزلة، وتعلن بصراحة: من المسؤول؟ ومتى تنتهي هذه الجريمة الصامتة؟ على النقابة أن تتحرك، لا أن تتفرج، وعلى الجهات التشريعية أن تفتح هذا الملف، ولا للمسكنات المؤقتة كي لا يتجمد الراتب - المتجمد أساسًا - خلف أبواب البيروقراطية، التعليم لا يُصلح إلا بكرامة المعلم، أمام تلاميذه وأمام مجتمعه، فكرامة المعلم من كرامة الوطن. أكرر: التعليم أمن قومي.
-----------------------------
بقلم: هاني منسي
* كاتب وناقد وخبير تربوي