في مشهد يعكس قسوة ما آلت إليه أوضاع التعليم والإدارة في مصر، تُوفي مدير إدارة تعليمية إثر أزمة قلبية مفاجئة، المفارقة القاسية أن الوفاة حدثت بعد رحيل الوزير، ولكنها كشفت ما هو أبعد من أزمة قلبية عابرة، إنها أزمة مؤسسة بكاملها، تُدار بالخوف، وتُحاسب بالصراخ، ويُدفن مسؤولوها أحياء تحت وطأة الإهانات.
فمنذ تولّيه المنصب، لم يتردد الوزير في فرض خطاب سلطوي قائم على التوبيخ العلني والإهانات، والقرارات المتسرعة التي يكتنفها الغموض ويكسوها الاستعلاء. والنتيجة: مديرو الإدارات والمدارس والمعلمون والمعلمات في حالة استنفار دائم، لا خوفًا من الفشل، بل خوفًا من خطأ غير مقصود في رصد درجات الطالب أو عدم مطابقتها للدرجة التي في الكشكول، أو من يد الوزير المرتجفة تشير إليهم "اسبقني على مكتبي"، لا لذنب سوى أن المدرسة ليس بها عدد الطلاب والطالبات الذي يريده سيادته، في هذا الجو المتوتر والضغط المتواصل يغيب التفاعل الإيجابي بين الطالب والمعلم - أهم وظيفة للمدرسة - ويزداد الاهتمام بالروتين الخانق والملزم. وتضطرب العلاقة بين المعلم ومدير المدرسة، ومدير المدرسة والمدير العام، والمدير العام والوزير، كما حدث بالضبط. ما يسمى بـ"الزيارات المفاجئة" لم تعد تعبيرًا عن رقابة مؤسسية سليمة، بل تحولت إلى استعراض للقوة، تُهندس فيه الكاميرات زوايا الإدانة مسبقًا، وتُعد فيه الأسئلة للإحراج، لا للتقييم. فبدلًا من أن تكون أداة لتحسين الأداء وتقديم الدعم، أصبحت كابوسًا يحلّ على الإدارات فجأة، لا يترك خلفه إلا قرارات تعسفية، وحالات نفسية مأزومة، وأحيانًا – كما حدث مؤخرًا – ضحية بشرية حقيقية، وكل الزيارات تقريبًا ركزت على جانب واحد فقط من العملية التعليمية وهو التقييم، العملية التعليمية مفهوم أوسع وأعمق من مجرد تقييمات، وزارة "التربية والتعليم" منوطة بتأهيل وتنشئة مواطن صالح، يؤدي واجباته ويعرف حقوقه.
المدير الراحل – الذي فضّلت الوزارة أن تُصدر نعيًا باهتًا له، خاليًا من أية إشارة للمسؤولية الأخلاقية، ليس إلا حلقة في سلسلة طويلة من الضغط المنهجي الذي يُمارس على قيادات التعليم والمعلمين والمعلمات. فبدلًا من أن يتلقى العاملون بالدولة الدعم والرؤية والتخطيط، أصبحوا يتعاملون مع وزيرهم كما لو كان " ديكتاتورا من العصور الوسطى" لا يُراجع، ولا يعترف بالأخطاء. المفارقة الأليمة أن وفاة مدير إدارة تعليمية، لم يحرّك ساكنًا حقيقيًا في الوزارة. لم يتحرك نقيب المعلمين حتى الآن، هل هناك نقيب للمعلمين أساسًا؟ هل هناك نقابة؟
***
حادثة الوفاة هذه تزامنت مع سلسلة من الأزمات داخل وزارة التربية والتعليم، كشفت عن فجوة هائلة بين القرارات الوزارية وواقع الميدان. بداية من التقييمات الأسبوعية التي فُرضت بشكل مبالغ فيه، دون دراسة أو إعداد كاف، ما أربك المدارس والطلاب وأولياء الأمور، ودفع الكثير منهم إلى البحث عن نماذج جاهزة على "جوجل"، بدلًا من تطوير تقييمات حقيقية تعكس مستوى التحصيل.
المؤسسات لا تُقاس فقط بما تُنجزه من مشروعات - إذا اعتبرنا توزيع الكثافة في الفصول على فترتين إنجازًا - بل بكيفية إدارتها للعاملين فيها، والحفاظ عليهم وتشجيعهم لا ترهيبهم، وإذا كان قلب مدير الإدارة، الراحل لم يتحمل ما يُدار باسمه من رهبة وذعر، فكم من قلوب أخرى تنهار بصمت، وتُهزم تحت السطح، دون أن يُعلن عنها نعي؟! وإذا أرادت وزارة التربية والتعليم أن تُكرّم فقيدها حقًا، فعليها أن تراجع جذريًا فلسفة إدارتها، قبل أن تُضيف أسماءً جديدة إلى قائمة الضحايا..
***
هل هناك حصة موسيقى يا سيادة الوزير؟ هل هناك معلم موسيقى؟ هل هناك آلات موسيقية تعمل؟ هل هناك مكان لحجرة الموسيقى، أم تم اختزال كل الأنشطة المختلفة في حجرة واحدة لا تفتح إلا لجرد الرواكد؟ وبالمثل هذه الأسئلة تفرض نفسها على الأنشطة التربوية، والغياب التام للتربية الرياضية، وتهميش مواد التربية الفنية والموسيقى والمسرح والإذاعة والصحافة والتدبير المنزلي أو الاقتصاد المنزلي والمجال الزراعي والصناعي (الصيانة) والكمبيوتر، بالإضافة إلى العجز في عدد المعلمين.. حتى باتت المدرسة المصرية اليوم مكانًا لرصد درجات التقييمات التي لا تنتهي، أبعد ما تكون عن تربية الإنسان الواعي والمواطن الصالح. فأين سيادتك من كل هذا؟ منشغل – كما يبدو – بإعداد زياراتك المفاجئة، وتوثيقها، وإقالة من تصادفهم في جولاتك ليعم الرعب في بقية المدارس أو الإدارات الأخرى التي لم تحظ بزيارة سيادتك.
إن أردت أن تمتلئ المدارس عن بكرة أبيها - رغبة منهم وليس ترهيبًا - عليك أولًا بالأنشطة التي تبني الإنسان نفسيا واجتماعيا وتجعله شخص سوي ويخدم وطنه، وهذا أمر لا يخفى على مستشاريك، بناء شخصية المواطن لا يكون أبدا بأوامر جوفاء، ولا بكثرة تقييمات مكبلة للروح والجسد، فتفقد الغرض منها.
"أنا رايح المدرسة علشان حصّة الموسيقى"... عبارة قد تبدو نادرة على ألسنة الطلاب المصريين اليوم، لكنها كانت يومًا شائعة، وحلمًا لكل معلم حقيقي: أن يشتاق الطالب ليومه الدراسي، لا هربًا من البيت، بل حبًا في المدرسة. لكن الواقع اليوم يبدو على النقيض: التلاميذ يهربون من الحصص، يتغيبون بانتظام، ويشعرون أن المدرسة مكان خانق، لا يمنحهم فرصة للتعبير عن أنفسهم، ولا يحتضن مواهبهم، ولا يرى فيهم إلا "أرقامًا" في كشوف الغياب والتقييمات.
وفي ظل هذا الواقع، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا: كيف نجعل من المدرسة مكانًا مرغوبًا فيه؟ كيف نخلق بيئة تربوية جاذبة؟
الإجابة لا تكمن في فرض الغياب، أو تهديد الأهل، أو عقاب المعلمين وإجبار الطلاب والطالبات على الحضور- أقول هذا من واقع خبرتي في هذا المجال لمدة 30 عاما تقريبًا - بل بالترغيب ويتسنى لنا ذلك من خلال إعادة الاعتبار لما نسيناه عمدًا أو استهنا به طويلًا: الأنشطة التربوية والفنية والعملية.
أولًا: المسرح المدرسي، حيث يتعلم الطالب أن يكون إنسانًا، المسرح ليس ترفًا. إنه مختبر القيم، ومساحة للتعبير، ومنصة لبناء الشخصية. في المسرح يتعلم الطالب الجرأة، واحترام النص، والتعاون، والإبداع. يُمكن لورشة مسرحية واحدة أن تُغيّر طالبًا خجولًا إلى قائد فريق، وأن تنقل طالبة منطوية إلى فنانة تعرف كيف تحكي للعالم، بالإضافة إلى مسرحة المناهج وعرضها بطريقة شيقة يشارك في إعدادها الطالب، وتتطلب تدريب المشرفين، وتخصيص ميزانية حقيقية، وفتح الأبواب أمام فرق من خارج المدرسة لتدريب الطلاب وتقديم عروض في قاعات تليق بهم.
ثانيًا: المكتبة: أكثر من مجرد رفوف، هل يعرف طلابنا اليوم أن المدرسة بها مكتبة؟ كم عدد الكتب التي قرأها طالب في عامه الدراسي؟ المكتبة يمكن أن تكون قلب المدرسة لا مجرد غرفة مغلقة. قراءة القصص، إقامة نادي كتاب، إجراء مسابقات ثقافية، تنظيم ورش كتابة وإلقاء… كل هذا يجعل من المكتبة مركزًا للخيال، والتفكير، والهروب الجميل إلى عوالم أرحب من المناهج الجافة.
ثالثًا: الموسيقى: لتكن نغمة الحياة حاضرة في المدرسة، كم مدرسة ما زالت تحتفظ بفرقة موسيقية؟ كم مرة عزف فيها الطلاب النشيد الوطني بأنفسهم؟
تعليم الموسيقى لا يصنع فنانين فقط، بل يعلّم التذوق، والانضباط، والانسجام الجماعي، ويُعيد للطالب علاقته بجسده وإيقاعه الداخلي. يكفي أن نعيد آلات الموسيقى للمدارس، ونُدرب المعلمين، ونمنح الطلاب فرصة لتجربة آلات متنوعة، لنُعيد الروح للفصول الصامتة.
رابعًا: الاقتصاد المنزلي: حياة تُدرَّس، التدبير المنزلي ليس حكرًا على الفتيات، بل مهارة حياتية يحتاجها الجميع. من تعلم الطهي، والخياطة، وتنظيم الوقت، وإدارة الموارد، والعناية بالنفس. إنه تعليم عبر الممارسة، يزرع الثقة في النفس، ويربط المدرسة بالحياة اليومية، ويُعيد للاختصاصات اليدوية مكانتها التي طالما سُلبت ظلماً.
خامسًا: المجال الصناعي: حين يعمل العقل واليد معًا، في مدارس كثيرة، أصبحت ورش النجارة والحدادة والسباكة مهجورة، والغبار يكسو الأدوات. لكن إعادة تفعيل المجال الصناعي تعني تدريب جيل قادر على العمل، على الابتكار، على الاعتماد على النفس. المدارس يمكن أن تنتج أثاثها، أدواتها، وحتى تبيع منتجات بسيطة من صنع الطلاب.
سادسًا: المجال الزراعي: من الفناء إلى الفهم، ما المانع أن تزرع كل مدرسة حديقتها؟ أن يزرع التلميذ نعناعًا أو طماطم؟ أن يتابع كيف تنمو شتلة؟ الزراعة تعني الصبر، والحب، والانتماء. تجعل الطالب شريكًا في بيئته، وتمنحه علاقة مع الأرض، تزرع فيه الإحساس بالمسؤولية والقدرة على الإنجاز.
سابعًا: الإذاعة المدرسية وجماعة الصحافة: صوت الطالب أهم من صوت الجرس، الإذاعة ليست تكرارًا مملًا للنشرة الجوية أو موعظة الصباح، بل يمكن أن تكون منبرًا حرًا للطلاب. يقدمون من خلالها خواطرهم، نشراتهم، تقاريرهم، برامجهم الخاصة. كل طالب يشارك في الإذاعة يشعر أنه مسموع، أنه موجود، أنه يملك صوتًا له قيمة.
ثامنًا: التربية البدنية: العقل السليم في الجسم السليم؟ عبارة اختفت من أذهاننا، ويعاني أغلب الطلاب والطالبات من السمنة، كان فناء المدرسة هو الفرصة الوحيدة لكثير من الطلاب والطالبات على ممارسة الرياضة، لهذا إلغاء حصص الرياضة أو الاستخفاف بها جريمة تربوية. الرياضة ليست فقط للحركة، بل لبناء القيم: التعاون، المثابرة، احترام القواعد، المنافسة الشريفة. وهي كذلك مجال لتفريغ التوتر، وبناء الثقة الجسدية، والتصالح مع الذات. من لا يجد متنفسًا في المدرسة، سيبحث عنه في مكان آخر وربما ليس الأفضل.
تاسعًا: التربية الفنية والأشغال الفنية تعلّم النظام والجمال، كلها أدوات لفهم العالم بطُرُق غير تقليدية. الطالب الذي يرسم، يكتشف، يلون، هو طالب يرى الحياة بمنظور أوسع. حصة الرسم ليست ترفيهًا، بل مدخلًا للإبداع، والابتكار، والتفكير البصري، وتدريب على تذوق الجمال والتعود عليه.
عاشرًا: المعامل، تشغيل معامل العلوم والتكنولوجيا وإصلاح الأجهزة، وقيام الطالب بنفسه بالتجارب تحت إشراف المعلم، مما يجعل المادة التعليمية شيقة ومحببة.
حادي عشر: تفعيل دور الاخصائي النفسي والاجتماعي وتقدير دورهم في العملية التعليمية والتربوية واتخاذ إجراءات رادعة لعلاج السلوكيات السلبية التي قد تبدر من الطالب وعدم التهاون في السلوكيات التي قد تبدو بسيطة لأنها تتفاقم بعد ذلك إن لم تجد التوجيه المناسب. وتفعيل ما يعرف بالحكم الذاتي، أي مشاركة فصل كل يوم للمساعدة في إدارة المدرسة ومتابعة النظافة والنظام فيشعرون بالمسؤولية والانتماء لهذا المكان.
ثاني عشر: إن لم نهتم بوضع المعلم والمشرف و الاخصائي والعامل الذين يقومون بالإشراف على هذه الأنشطة ومتابعتها، فكل ما ينفذ هباء.
ما نحتاجه اليوم ليس تطويرًا شكليًا للتعليم، بل ثورة حقيقية في فلسفة التعليم. وهذا يتطلب صبر وجهد ومال، الطالب ليس جهازًا نستقبل منه درجات الامتحان، بل إنسان يتشكل، يبحث عن ذاته، عن معنى لوجوده في هذا المكان. إذا أردنا طلابًا لا يكرهون من المدارس، فلنُعِد المدارس إليهم. لنُدِر المدرسة لا كمؤسسة رقابية، بل كمكان حي، يتنفس، يُخطئ ويتعلم، يحتضن ويُلهِم.
***
التعليم لن يتطور بكاميرات مراقبة أو بأوامر تعسفية وفرض عقوبات، بل بمسرح صغير، مكتبة مفتوحة، نغمة جميلة، وفناء مزروع بالزهور، لوحة مرسومة بعفوية، موضوع إنشاء به أخطاء قابلة للتعديل، ملعب به فريق متحمس للفوز، ويتقبل هزيمته بروح رياضية.
---------------------------
بقلم: هاني منسي
* كاتب وناقد وخبير تربوي
اقرأ أيضا
استشارية نفسية تثير الجدل برواية جديدة لملابسات وفاة مدير إدارة الباجور بعد تعنيف وزير التعليم