30 - 04 - 2025

ما بين الشرق والغرب

 ما بين الشرق والغرب

في مايو من عام 1827، قام البريطانيون بتجديد ضريح القديس كوثبرت (634 – 687م) في دير "درهام"، شمال شرق إنجلترا ليجدوا رفات القديس محفوظة في رداء حريري منقوش بحروف غريبة، تبين بعد بحث وتدقيق أنها مكتوبة بالخط الكوفي المربع، لعبارة "لا إله إلا الله". 

في كتابه "هارون الرشيد وشارل العظيم" يحل الباحث "ف. بكلر" لغز الرداء حيث هو واحد من الهدايا التي أرسلها هارون الرشيد إلى "بيبن القصير"، ملك فرنسا الذي بدأ هذه العلاقات ببعثة أرسلها إلى بغداد عام 765م واستمرت العلاقات وخصوصا فترة فتنة الأيقونات في الكنيسة البيزنطية، فكان الغرب يتعاون مع الشرق في تحالفات ضد الإمبراطورية البيزنطية، وتعاون الشرق مع الغرب في تحالفات ضد الأمويين في إسبانيا الإسلامية... 

لكن، مهلا ما هو الشرق وما هو الغرب؟ هذا المفهوم الجغرافي الذي نسحبه على قيم ثقافية ودينية هلامية الحدود، بل ونحاول تأصيله لفترات لا علاقة له بها مثل الحروب الصليبية (1100 – 1300م). فإذا كانت توصف بأنها بين غرب مسيحي وشرق إسلامي، فتاريخيا كانت إسبانيا دولة إسلامية حتى عام 1492م. وإذا عدنا لعلم الاجتماع لنعبر عن اختلاف ثقافي فما أشبه الإمبراطوريات شرقاً وغرباً حتى الثورة الصناعية، وما أدعى للخلافات بين إنجلترا وشرقها في أوروبا، لغة وثقافة وديناً، أدت لنشوب حروب أشهرها حرب المائة عام مع فرنسا. هل هو مفهوم اقتصادي؟ عندما يتحدث المتخصصون عن ذلك يقارنون بين الصين وبين أوروبا كنظم للحياة الاقتصادية، وكأن الصين تقوم فقط على طريق الحرير والتجارة وتتوه كل المناطق في الوسط مختزلة بهذه الفكرة الاقتصادية العقيمة. 

ظهر مفهوم الشرق واتحاده تجاه الغرب على يد تشايباناشيراكي (1881- 1945) وكانت دعوته عن شرق جديد يجابه الغرب الثقافي الذي غزا العالم آنذاك، وإن الصراع قائم بالفعل، فإن التأصيل الأقوى كان في خطاب ماوتسي تونغ في عام 1957، حين قال "هذه حرب بين عالمين، لا تستطيع الرياح الغربية التغلب على الرياح الشرقية". وكان قدرنا أن نقع في الوسط بين مهب الرياح من الناحيتين، ولكننا نتحدث الآن عن كوننا شرقاً أمام الغرب. قد يكون تاريخيا أشهر انقسام بين الشرق والغرب هو الحدود السياسية بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، وهو هنا انقسام يرث خلافات أقدم بين فارس واليونان، ويتجذر أيضا هذا الخلاف دينيا في مرحلة رمادية بين المسيحيين النساطرة وباقي مسيحي الإمبراطورية، ومع بداية ما يسمى تاريخيا بالقرون الوسطى يتماهى هذا الخلاف الجغرافي، فتهوى الإمبراطورية الرومانية مع غزوات الجرمان من الغرب والشمال، ويسيطر العرب على المناطق الفارسية وأجزاء من الإمبراطورية الرومانية في الشرق والجنوب، وهنا تصبح الحضارة العربية أو الإسلامية هي قلب العالم فشرقها محاور حضارات آسيا الأساسية إيران والهند والصين، وغربها أراضي الإمبراطورية الرومانية التي دخلت العصور الوسطى في حالة من الخمول والاضمحلال والانقسام والذي سيكون مثابة ميلاد عالم جديد في المستقبل، وتزدهر الدولة الإسلامية في ثوبها الأموي ثم العباسي ثم الفاطمي لتصبح منارة الحضارة آنذاك، حتى يلتقي الشرق والغرب لقاء عنيفا في الحرب المسيحية المقدسة (الحروب الصليبية).

إذا راجعت المؤرخين العرب المعاصرين للحملات الصليبية الأولى لن تجد لفظا يدل على منحى ديني، عندما تقرأ معالجة ابن القلانسي وهو معاصر للحملة الأولى أو باقي المؤرخين مثل ابن عساكر وابن الجوزي والعماد الأصفهاني وابن الأثير وابي الفداء ... ستجد نفسك أمام جيوش غازية من الإفرنج أو الروم مع معالجة تاريخية تشبه تماما معالجة هؤلاء المؤرخين لحروب الترك والسلاجقة، ونحن هنا لا ننفي المشاعر الدينية كمحرك للجنود والجماعات. وإذا راجعنا مؤرخي الحملة الأولى من الجانب المسيحي فتقابلنا السردية الرائعة للأميرة أناكومينا عن والدها الإمبراطور ألكسيس والتي دعتها (الإلكسيادة) والتي تدافع فيها عن أعمال والدها مقابل اتهامات مؤرخي الإفرنج له بالخيانة مثل ريمون دي جيل وفولتشر أوف تشارتز، وأيضا لا نجد وصف جيوش الفرنجة هنا بالصليبيين، ولا حتى الحملات التالية، فوصف حمل الصليب وصف ديني الغرض منه استثارة مشاعر الجموع لتقديم تضحيات الحرب بنفس راضية في لحظة يصفها ديورانت بأنها: "أجل الحوادث بالتصوير في تاريخ أوربا والشرق الأدنى، ففيها عمد الدينان العظيمان- المسيحية والإسلام- آخر الأمر، وبعد قرون من الجدل والنقاش، إلى الفيصل الأخير فيما بين بني الإنسان من نزاع، ونعني به محكمة الحرب العليا". 

وفي هذه السرديات الأولى لم يكن صراع الحضارات (دينا أو ثقافة) قد تبلور بالشكل الذي نعرفه الآن في أذهان معاصري الأحداث، ما حدث في هذه اللحظة التاريخية يشبه الأحداث المفصلية في التاريخ التي تعيد تشكيل المنظر العام للعالم مثل حروب الإسكندر الأكبر، أو غزوات الجرمان أو حروب العرب. لقد كانت الحروب الصليبية ذروة مرحلة تاريخية تنهي حقبة وتبدأ بافتتاح حقبة جديدة في تاريخ البشرية، وككل الأحداث العظيمة المؤثرة سوف تحمل أكثر من واقعها التاريخي، عندما نشبعها بتأويلات المؤرخين والفلاسفة وعلماء الاجتماع وبالأخص هنا رجال الدين من الجانبين بعد قرون من الحدث.

وللحديث بقية.  
--------------------
بقلم: شنودة الأمير

مقالات سابقة في ملف "نحن والغرب"

مقالات اخرى للكاتب