30 - 04 - 2025

الكلمة نور

الكلمة نور

بقلم / محمد مصطفي الخياط

للعيد بهجة تختلف باختلاف مراحل العمر.. فرحنا صغارًا بالحذاء الجديد والقميص الجديد والبنطلون الجديد وركوب المراجيح.. وفرحنا أيضًا بأوراق النقد الجديدة وملمسهاالناعم؛ العشرة قروش بلونها المائل للزرقة يزينها مشهدالأهرامات وأبو الهول، والربع جنيه بلونه الضارب للصفرة وتمثال نهضة مصر لجمال السجيني، بينما كانت الورقة فئة الخمسين قرشًا بصورة المسجد الأزهر المائل للحمرة مفاجأة خارج التوقعات.

وبينما كان صاحبنا منهمكٌ في أجواءِ العيد، إذ تلقى اتصالاً تليفونيًا بادره فيه الطرف الآخر مهنئًا بالعيد ومتمنيًا أطيب المنى، ثم أردف (لقد جعلت عيدي هذا عيدًا جميلاً بامتياز)، وقبل أن يرد صاحبنا التحية أردف الطرف الآخر بنفس وتيرة الحماس (لقد انتهيت للتو من قراءة روايتك الأخيرة.. يا لها من رواية!!)، ثم انطلق يعدد المشاهد فيُسهب حينًا ويقتضب حينًا آخر، أو يقف عند إحدى شخصياتها فيلوم عليها تصرفًا بدر منها، كأنما يتحدث عن شخص يعرفه، أو يعتب على صاحبنا اقتضابه في موضع رآه أهلاً للإسهاب، مع بعض إشادةِ بهندسة الكلمات وحسن صياغة صورها وانتقاء المناسب منها. 

وكالعادة، غرق صاحبنا في محيط خجله، كأنما يُلام عُتبًا ولا يُشكر حمدًا، ثم ألقى بكل ثقله محاولاً إبعاد قارب الحديث عن نهر المجاملات وما واجه تلك الرواية من سوء حظ في التوزيع، حتى ليحسب أن الناشر لم يكتفِ بيتمها ووحدتها فأهمل توزيعها، واستمر سجال المكالمة حينًا كرر فيه الطرف الآخر أهمية كتابة جزء ثان، وصاحبنا على حاله من إنكار للفكرة.

جاءت هذه المكالمة وصاحبنا كله يقين أنه صورة للمدعو دون كيشوت الذي جاب الفيافي والقفار ووقف أمام طواحين الهواء يتحداها من فوق حصان هزيل بخُطبٍ عصماء لا تسمن ولا تغني من جوع، كلام أجوف تصفر فيه ريح جهل يظنه حكمة.

وقد كان صاحبنا يظن -حين كتب روايته تلك- أنها سوف تَلقى من القراء قبولاً حسنا يكفل لها شيء من ذيوع الصيت، فخيب التوزيع ظنه ووئدت وأدًا ترك ندبة في نفس صاحبنا صرفته عن استكمال ما نوى عليه كجزء ثان.

ولعلك سيدي القارئ تظن أن بصاحبنا شيئًا من تضعضع الثقة يمنعه من المضي فيما عزم، لكنه –صاحبنا- كان كعادته كثير الحديث إلى نفسه، منها إلى الآخرين، ذلك أنها كثيرًا ما تلومه وتعنفه أشد ما يكون اللوم والتعنيف عن إحجامه عن كتابة الجزء الثاني من الرواية، فلما أعياه الجدال قال لها بلسان الضيق، ما ظنك بطاهٍ اعتاد أن يبتاع أسبوعيا من السوق ما شاء له الله أن يبتاع، حتى إذا ما عاد إلى مطبخه اجتهد وطهى أحسن ما يكون الطهي، ثم نشرأطباقه على المائدة وأَذَنَ في المدعوين أن هلموا، فيمر هذا فيتجاهل، وذاك يلمز، وآخر يجامل متوجسًا أو مكتفيًابقضمة، حتى إذا ما انصرفوا وجد بضاعته ردت إليه، إلا من مسٍ رقيق، لا يسمن ولا يغني من جوع، وها أنذا أيتها النفس اللوامة، أسألك النصيحة في حال ذلك الطاه البائس؛أيداوم على صنيعه أم يُغلق محله، ويبحث عن عمل آخر.

وهنا، طأطأت النفسُ رأسًا مثقلةً بالهموم، ثم تطلعت نحو قرص الشمس وقالت لصاحبنا، ما ظنك بهذه الشمس وهي على صنيعها منذ خُلقت، يقبلها هذا وينكرها ذاك، أتُراها تعتزل عملها؟، فبادر وقال؛ تكون كارثة إذ لا حياة بدونها، فأردفت النفس في هدوء كأنما تتلو حُكمًا؛ كذلك الكلمة.. لا حياة بدونها، أُكتب يا هذا وانشر ضوء شمس كلماتك(فالكلمة نور).

…………………

بقلم / محمد مصطفي الخياط

مقالات اخرى للكاتب

حول (مسقط .. عندما تتحصن السياسة بالجغرافيا)