قول الكتب المقدسة ، حتي في كتبهم : " أنهم قتلة الأنبياء " ! ... لكن هذا المقال لا يبحث في الدين ...
المسألة لم تبدآ بيوم السابع من آكتوبر 2023 كما يدعي نتنياهو وأركان عصابته ، كما أن جرائم الكيان الصهيوني منذ إنشاءه لم تقتصر علي الشعوب العربية ، بل أن ذلك الكيان العنصري ارتكب جرائم فادحة تتواضع أمامها جرائم النازي ضد هيئات وممثلي الأمم المتحدة ، ولم تكن الإعتداءات الوحشية علي مباني " الأونروا " وقتل العاملين فيها هي أول هذا النوع من الإعتداءات ، ولا يبدو أنها ستكون آخرها ، طالما استمر المجتمع الدولي يغمض عينيه ويصم أذنيه عن هذا السفاح الدولي الذي عاث في الأرض فساداً بشكل لم يسبقه إليه أحد .
ومن على منبر الجمعية العامة في 27 أيلول/سبتمبر 2024، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأمم المتحدة بأنها ـ“بالوعة من العصارة الصفراوية المعادية للسامية التي يجب تجفيفها”. وقال إنها إذا لم تمتثل، لن “تُعتبر أكثر من مهزلة حقيرة”. كان ثلاثة أرباع الحاضرين قد غادروا القاعة آنذاك. لكن ذلك لم يكن كافيا للتأثير في نتنياهو.
وبموجب القانون الدولي “يُمنع البتّة استهداف مباني الأمم المتحدة وجميع المستشفيات والمدارس والعيادات"، ولكن القوات الإسرائيلية استهدفتها جميعاً غير عابئة بالقانون ولا النداءات المتتالية حتي من بعض أصدقاء إسرائيل مثل ما نويل ماكرون ، أو حتي الأمين العام للأمم المتحدة .
أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق كل من بنيامين نتنياهو (رئيس الحكومة الإسرائيلية) ويوآف غالانت (وزير الدفاع السابق) واعتبرت المحكمة أن السلوك المزعوم لنتنياهو وغالانت يقع ضمن اختصاص المحكمة. وأشارت إلى أنها قررت بالفعل أن اختصاص المحكمة في هذا الوضع يمتد إلى غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
في يناير 2024، وجدت محكمة العدل الدولية أنه “من المعقول” أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ،وكإجراء مؤقت، أمرت المحكمة إسرائيل “باتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها” للامتناع عن انتهاك اتفاقية عام 1948 لمنع ومعاقبة الإبادة الجماعية، كما أمرت إسرائيل “بمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية" .
وفي حكم لاحق في مارس 2024، بشأن التدابير المؤقتة مجدداً، كررت محكمة العدل الدولية أوامرها الصادرة في يناير وأمرت إسرائيل بضمان “توفير المساعدات الإنسانية على نطاق واسع دون عوائق” لجميع مناطق غزة .
وعلى الرغم من طبيعتها الملزمة قانونًا بشكل واضح، فقد تجاهلت إسرائيل علانية أوامر محكمة العدل الدولية؛ حيث أدانها رئيس الوزراء نتنياهو ووصفها بأنها “شائنة”، وصرّح وزراء آخرون في الحكومة بأن المحكمة “لا تسعى إلى العدالة، بل إلى اضطهاد الشعب اليهودي ,كما تجاهلت إسرائيل علانية قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي تم تبنيها منذ أكتوبر 2023، وخاصة القرار دقم 2728، الذي طالب بوقف إطلاق النار لمدة شهر خلال شهر رمضان، بالإضافة إلى رفع جميع القيود المفروضة على المساعدات الإنسانية إلى غزة. شأنها شأن عشرات القرارات الأخرى التي اتخذها مجلس الأمن بشأن الوضع في فلسطين على مدى عقود من الزمان، رفضت إسرائيل ببساطة الامتثال، دون مواجهة أي عواقب حقيقية. وعلى وجه الخصوص، تواصل الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية الأخرى تزويد إسرائيل بإمدادات لا نهاية لها من الدعم العسكري والمالي والسياسي .
وقد مثلت الإغتيالات سياسة ثابتة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ، وتمتد القائمة لتشمل الألاف من السياسيين الفلسطينين والعرب ، بل ومن الأجانب المتعاطفين مع القضية الفلسطينية ، واشتهرت كذلك جرائم اغتيال العلماء العرب في مصر والعراق وإيران وغيرها ، إلا أن الأخطر كان بلا شك جرائم إغتيال ممثلي الأمم المتحدة خاصة أولئك الذين كلفوا بمهام الوساطة بين العرب والإسرائيليين .
وكان الكونت برنادوت أول رسل السلام الذين اغتالتهم إسرائيل ، وإن لم يكن الأخير ، وكانت البداية عندما طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة تشكيل لجنة من خمس دول لإختيار وسيط دولي في 17 سبتمبر 1948 ، وذلك كي يعمل رسولا للسلام بين الأطراف ويسهم في التوصل إلي صيغة مقبولة للتعايش السلمي فيما بينهم ، بسبب ما ترتب علي قرار الجمعية العامة بتقسيم فلسطين فير29 نوفمبر 1947 دون مراعاة أو استشارة الغالبية الكبري للسكان .
وبالفعل قد اختارت هذة اللجنة ، المشكله من أمريكا ، الاتحاد السوفيتي ، وفرنسا ، والصين في حينه الكونت فولك برنادوت ، حفيد ملك السويد ، والذي كان يشغل ، عند ترشيحه ، نائب رئيس الصليب الاحمر السويدي .
وكان الكونت برنادوت من خلال منصبه السابق في الصليب الأحمر قد قام بمجهودات عظيمة اثناء الحرب العالمية الثانية ؛ أسفرت عن انقاذ واطلاق سراح عدد كبير من الاسرى من سجون القوات النازيه الغاشمة ؛ وكان عدد كبير منهم من اليهود ، والباقي من جنسيات مختلفه من دول اوروبا .
ومما لا شك فيه ، فأن هذا العمل النبيل الكبيرقد أكسبه شهرة واسعة في العمل الإنساني الدولي ؛ ساهم في تشجيع الاوساط اليهودية في أروقة الامم المتحدة علي اختياره من بين منافسين ؛ ليتولي دور الوساطة كرسول للامم المتحدة ، في إيجاد حلول عادلة بين المتصارعين ، واختارت مساعداً له في ذات الوقت العقيد الفرنسي سيروت .
وبذل الكونت برنادوت ، جهوداً كبيراً ؛ للاطلاع ومعرفة تفاصيل المشكلة الجديدة التي اطلع بها ، واستعان بالعديد من المستشارين ، وقام بجولات ميدانيه واسعه ، لمعرفة ادق التفاصيل والحقائق .
وشاهد بأم عينه ، ما تعرض له الشعب الفلسطيني من مظالم ؛ وعنف ؛ وتشريد ؛ ودمار ؛ والتقى بعشرات الالاف من اللاجئين الفلسطينين الفارين إلى مدينة رام الله وغيرها ؛ وهم في حاله بائسة مزريه ؛ أطفال ، ونساء وشيوخ ؛ وكانت القوات الصهيونيه ، حتى ذلك التاريخ قد دمرت 200 قرية فلسطينية تدميراً شاملاً ؛ وهجرت وطردت مئات الالاف من مدنهم في حيفا ويافا واللد والرمله وغيرها .
وبعد دراسة عميقه ، ومتابعات ؛ ميدانيه ، ومشاهدات لما حل بالشعب الفلسطيني ، من ظلم ؛ ومآسي ، ضياع مستقبل .
قام بالتقدم بعدة اقتراحات للامم المتحده و الامين العام ؛ في محاوله جادة ، لإيقاف التدهور ؛ السياسي والاجتماعي ؛ ومحاوله لتهدئة الامور ؛ المضطربه على النحو التالي :-
1) اعادة اللاجئين إلى ديارهم وتعويضهم .
2) ضم اقليم النقب إلى الدوله العربية ؛ وضم القدس للدوله العربية .
3) ضم الجليل إلى الدولة اليهودية، وإعطاء اليهود حقوق دينيه في القدس .
رفضت الحركة الصهيونيه هذه الاقتراحات وقاومتها ؛ وبدأت رسائل التهديد تنهال ؛ على مكتب الكونت برنادوت من اتباع هذه الحركه .
واستلم وهو في مطار بيروت من مكتبه في القدس ، رسالة تهديد بالقتل ، ونُصح بعدم التوجه إلى مطار قلنديا في القدس . الا انه أصرّ ، ووصل إلى القدس في المناطق العربية منها بحراسة القوات الاردنية ؛ التي رافقت القافلة المؤلفة من ثلاث سيارات إلى الحاجز العسكري على حدود القدس العربية ؛ والتي تسيطر عليه (الهاجاناه) ، القوات اليهودية الرسمية .
ولم يكد يبتعد الموكب أكثر من مائة متر ، حتى اعترضته سيارة جيب عسكرية، بها 6 أفراد بلباس عسكري إسرائيلي الموكب . وتعرف ثلاثة منهم على الوسيط الدولي ومساعده ؛ وافرغت في صدر كل منهم ستة رصاصات ، لتنهي حياة هذا الرسول الشريف .
إزاء هذه الجريمة البشعة ، اجتاحت الامم المتحدة والرأي العام في العالم موجة غضب عارمة ، وحاولت السلطات اليهودية باحتوائه من خلال اعتقال خمسين عضواً من أعضاء المنظمات الارهابية اليهودية لمدة قصيرة ثم اطلقت سراحهم.
وعلي ضوء هذا الاهمال وهذا التقاعس الذي اظهرته اسرائيل ، عقد مجلس الامن اجتماعين ، واتخاذ قرارين الأول رقم 57 في سبتمبر 1949 ، والذي اعرب فيه عن الصدمه والفجيعة ، من العمل الجبان ، الذي اقترفته جماعة مجرمه من الارهابين في القدس .
ونكست الامم المتحده علمها ثلاثة ايام .
ولما امتنعت اسرائيل عن تنفيذ القرار وتقديم تقرير عن الجريمه النكراء اتخذ مجلس الامن القرار 59 بتاريخ 19 أكتوبر لعام 1948 جاء فيه:
1) ان مجلس الامن يلاحظ بقلق ان حكومة اسرائيل المؤقته لم تقدم حتى الان تقريراً إلى مجلس الامن أو إلى الوسيط بالوكاله حول تقدم التحقيق عن الاغتيالين ( اغتيال وسيط الامم المتحده الكونت فولك برنادوت واغتيال مراقب الامم المتحده اندريه سيرو ) .
2) يطلب إلى تلك الحكومه في وقت قريب تقديم تقرير إلى مجلس الامن عما احرزه التحقيق من تقدم ؛ وتشير فيه إلى الاجراءات التي اتخذت بشأن إغتيال الموظفين أو العناصر الاخرى المؤثرة في الجريمه .
ومع ذلك تراخت الامم المتحدة في إتخاذ مواقف حازمه إزاء الجريمه بسبب تدخلات دوليه من دول الغرب الكبرى وعلي رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي أصرت على تقسيم فلسطين وتشريد شعبها .
والمدهش والمتسهجن ان اثنين من الذين شاركوا في عملية الإغتيال ، أصبحا فيما بعد رؤساء وزراء لإسرائيل ، وهما اسحق شامير ومناحم بيجن ، اما الثالث فأصبح عضو كنيست ؛ والاكثر غرابة ؛ ان رئيس وزراء اسرائيل بن جوريون فال بعد عشر سنوات من الجريمه انه لولا قتل برنادوت لما قامت دولة اسرائيل
وليس من المستغرب ؛ ان ابناء وأحفاد القتله الارهابيين ؛ هم من يحكمون اليوم في اسرائيل ؛ ومنهم من قتل رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين ؛ عندما فكر آن يخطو بعض خطوات في طريق السلام ، ووقع اتفاق أوسلو عام 1993 .
أن ميثاق الأمم المتحدة يتضمن النص علي اتخاذ تدابير قانونية في حالة استمرار إحدي الدول الأعضاء في انتهاك إلتزماتها الدولية بحيث تصبح " دولة مارقة " ، وأهم هذه التدابير هي البدء فوراً في إجراءات طرد ذلك العضو " المارق " من المنظمة ، إذ كيف يتآتي قانوناً ومنطقاً أن يستمر عضو في أي تنظيم ( ناهيك عن منظمة كبري كالأمم المتحدة ) متمتعاً بحقوق العضوية ، دون الإلتزام بواجباتها ؟ ! .
أن المادة 25 من الميثاق تقضي بقبول و" تنفيذ " قرارات مجلس الأمن ، كما أن المادة السادسة تنص صراحة علي أن الدولة التي " تنتهك باستمرار المبادئ الواردة في هذا الميثاق ، يجوز طردها .. بقرار من الجمعية العامة ، بناء علي توصية من مجلس الأمن ..." .
وانتهاكات إسرائيل لمبادئ الميثاق تستعصي علي الحصر من كثرة عددها منذ أن تآسس هذا الكيان بقرار من الجمعية العامة ، وهو القرار رقم 181 بخرائطة التي تحدد بدقة أين تقع حدود هذه الدولة المصطنعة ، بل أن إسرائيل تعتبر في حالة " خرق مادي " لهذا القرار المنشئ لها حتي الآن ، ويجب مراجعتها فيه .
أما انتهاكات قرارات مجلس الأمن ، فحدث ولا حرج عن العشرات من القرارات التي انتهكتها إسرائيل ، ولا تزال تنتهكها ، بما يوقعها تحت طائلة المادة 25 والمادة السادسة من الميثاق .
ورغم إدراكنا لصعوبة إجراء الطرد نتيجة للإحتمال القوي بإستخدام حق النقض من أمريكا راعية الإرهاب الأولي في العالم علي وجه الخصوص ، فلا آقل من العمل – ضمن ما يزيد علي 150 دولة اعترفت بدولة فلسطين – علي تعليق عضوية إسرائيل ، كما حدث سابقاً في حالة نظام الحكم العنصري في جنوب إفريقيا , بما قد يساهم في توفير الضغط الكافي علي ذلك الكيان العنصري كي يتحقق السلام أخيراً علي أرض السلام في فلسطين .
وعلي من يعترض علي الإستنتاج الأخير آن يوضح للعالم : " كم يجب أن يقتل من رسل السلام ، قبل أن يتخذ آجراء حازم من المجتمع الدولي " ؟؟؟.
…………………………….
بقلم / معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية الأسبق