01 - 05 - 2025

السياسة بين الاستدراج والإغواء

السياسة بين الاستدراج والإغواء

رفع إبراهيم حمدي باشا، رئيس الديون الملكي، سماعة الهاتف وأنصت إلى الصوت على الطرف الآخر، وسرعان ما جحظت عيناه وامتقع وجهه، ثم تمالك نفسه وعقب "ألا يرى جلالة الملك أهمية عرض أمر كهذا على دولة رئيس الوزراء"، فجاءه رد صاعق بأن جلالته لا يريد إطلاع رئيس الوزراء، فقرار إرسال الجيش المصري إلى فلسطين قرار خاص بالملك وحده؛ كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة.

وضع الباشا السماعة، وضرب كفًا بكف، وتساءل كيف يُخفي الملك قرارًا كهذا على رئيس وزراء، بل كيف لا يثق فيه ويثق في الشماشرجي الذي أبلغه قرار الملك تليفونيًا، وحين طلب مقابلة جلالته، اعتذر قائلاً (جلالته مجتمع مع أكبر حمار في البلد)، يقصد الأمير عادل عمرو الذي يراه خبيرًا عسكريًا يعتمد عليه في خططه الحربية.

كانت التقارير الواردة للملك من مختلف البلدان العربية تؤكد عدم امتلاك إسرائيل قوة حربية.. مجرد عصابات مسلحة لا تمتلك خبرات حربية لا تستطيع الصمود أمام الجيش المصري، الذي يمكنه القضاء عليها في ساعات. تلى ذلك رسائل رسمية تُبايع جلالته زعيمًا وتنادي به خليفة للمسلمين.

وأظنك سيدي القارئ لست في حاجة لسرد بقية الأحداث، بداية من الأسلحة الفاسدة وهزيمة الجيش وإعلان تأسيس دولة إسرائيل.

تذكرت هذا المشهد الافتتاحي لرواية (صاحب الجلالة الحب) للكاتب الكبير مصطفى أمين إثر قراءة تعليق للدكتور حافظ السلماوي، الرئيس الأسبق لمرفق الكهرباء والأستاذ بهندسة الزقازيق، على أحد مقالاتي رجح فيه ما اتبعته أمريكا مع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي بأنه مزيج بين سياسة الإغواء والتهديد بالعصا؛ جاء فيه:

(سياسة الإغواء بأن تكون أوكرانيا جزءا من الغرب الغني تُجاوز واقعها كدولة على حدود الدب الروسي والذي لن يسمح بأن تبتعد عنه بمسافات تتجاوز ما يمكن أن يقبله. تلى ذلك مرحلة العصا؛ بأن تدفع أوكرانيا ثمن ما أخذته من سلاح.  وأظن أن دوافع ترامب تنحصر في الاتفاق مع الروس لإخراجهم من ورطة أوكرانيا نظير تحجيم الدور الروسي عالميا وفك ارتباطاتهم مع الصين وإيران، وقد كانت أوكرانيا الضحية في هذا المذبح بشرط تحقيق الجميع مكاسب على حسابها، أما في حال منطقتنا فإسرائيل أولاً وثانيًا وأخيرًا، وليذهب الآخرون الي الجحيم.

كما يحدث ذلك أيضًا في غزة والقضية الفلسطينية عموما من أحلام السلام وقبول الآخر والمعاهدات لتنويم المجتمعات عن النوايا الحقيقية وصولاً إلى عصا التهجير، وهي سياسات قديمة جديدة تختلف فقط في الأساليب وليس في الأساس.). انتهى

في نقاشي مع الدكتور السلماوي حول مائدة إفطار رمضان، أوضح أن سياسة الإغواء تختلف عن سياسة الاستدراج، ففي حرب الأيام الستة 1967، تذرعت إسرائيل بهجمات الفدائيين الفلسطينيين ونقلت جانبا من قواتها إلى الحدود السورية، في المقابل أرسل الرئيس عبد الناصر الفريق أول محمد فهمي إلى دمشق لتولى القيادة المشتركة للقوات السورية والمصرية، فضلاً عن إرسال خطاب إلى قائد قوات الطوارئ الدولية في سيناء تضمن حشد القوات المصرية على الحدود للتعامل مع إسرائيل فور قيامها بعمل عدائي ضد أي دولة عربية، وطلبت مصر إخلاء قوات الطوارئ مواقعها من الجانب المصري، وأعلن الأردن تعبئة قواته، تلى ذلك إجراءات تصعيدية استراتيجية، منها إغلاق مصر مضايق تيران، تزامنت مع إجراءات من جانب عدة دول عربية زادت من حرارة المنطقة، في وقت كانت كل المعلومات المرسلة من الجانب العربي تفيد بأن القوات العربية سوف تدخل تل أبيب في غضون ساعات من بدء القتال، وليتكرر ما وقع عام 1948، إلى أن جاء عام 1973 وطبق الرئيس السادات سياسة الخداع الاستراتيجي، فكسب الحرب.

وبين الاستدراج والإغواء تمضي بحور السياسة.
---------------------
بقلم: 
د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حول (مسقط .. عندما تتحصن السياسة بالجغرافيا)