دعونا نتكاشف في هذه السطور.. فالضغوط التي يتعرض لها أمثالي ، المختلفون مع السياسات الحالية ، قاسية ومريرة .. يتهموننا بأننا بأفكارنا المعارضة نقود البلاد إلى التهلكة. بالقطع هذا ليس صحيحا، الفرق بيني – مثلًا - وبين هؤلاء الذين يتهموننا بكل الموبقات في الكتابة والخطاب السياسي، أنهم لا يريدون مراجعة الدولة في أي شيء.. بل ويسدون الطريق سدًا ويحولون دون هذا بكل السبل. يصيحون في وجوهنا: "من أنتم"؟! يصعب عليهم تماما قبول مثل هذه المراجعة .. إنهم دولجيون أكثر من الدولة .. على سبيل المثال، حينما استجاب الرئيس لما طالب به الخصم السياسي حمدين صباحي ، باجراء حوار وطني ، يقود الأمة المصرية المنقسمة، وبكافة طوائفها وتنوعها إلى كلمة سواء، فإنهم استكثروا ذلك عليه ، وربما سخر كثير منهم منه (حمضين كما ينطقون اسمه !!) ومن مشاركته في هذا الحوار. شيء محزن !! عندما هزَّ عمرو موسي الدنيا كلها في كلمته التي ألقاها مؤخرا، لم يحتفوا بأي سطر جاء فيها ، واعتبروا أن الرجل - ربما يأتي من الأدغال وبلاد تركب الأفيال - جاء ليقدم خطابًا ورؤية سياسية ينقصها إلهام الجند، وخبرة العسكريين المصريين ، الذين لن يعلمهم عمرو موسي على آخر الزمان مباديء الأمن القومي.. أليسوا غارقين في أتونها ليلا ونهارا وبالتالي "مش محتاجين عمرو ولا زيد" ولا يحزنون!
هؤلاء لديهم قواعد غريبة تحكم طريقتهم في التفكير، منها مثلًا "مصر منذ سبعة آلاف سنة او أكثر وهي كلها "عسكر"، منذ عهد مينا موحد القطرين" .. كانت هكذا في عهده وفي عهود احمس وتحتمس وحتشبسوت ورمسيس .. كل هذه الجيوش والعتاد والقوة حاربت ووحدت القطرين وهزمت الاعداء .. ودمرت الهكسوس والحيثيين وشادت مجدًا عسكريا يعرفه العالم ويذكره التاريخ ! ولأن مصر اليوم تواجه الخطر من كل صوب وحدب فإنه ليس غريبا الآن أن يكون العسكريون على كافة خطوط النيران .. من الجبهة العسكرية إلى الاقتصادية إلى العمرانية إلى الثقافة والترفيه .. وبالتالي علي مصر أن تقبل بوضع كل البيض في سلة الجيش .. ولا تخشي ابدا أن يأكل نصفه ! .
هذا كلام يقوله اصدقاء النظام واكثر من هذا ، معتبرين أنهم وحدهم يحتكرون الوطنية والعلم والمعرفة والرؤى الصائبة .. وأن غيرهم من المعارضين إنما يهلوسون ، ويؤمنون بأن الوطن مجرد حفنة من تراب عفن ، تماما كما يقول الإخوان المفسدون، وأكثر من هذا فهم متمولون ومأجورون .. ولا يزالون في أسِّرَة المراهقة السياسية، إن لم يكونوا شبعوا رضاعة من العمالة والخيانة إلخ. هذه الأوصاف التي لا يتورعون عن إطلاقها ، كلما سمعوا اسم أحد ممن يخالفونهم ويكرهونهم بسبب اختلافهم مع السياسات العامة في البلاد ! أسماء من نوعية البرادعي (يا سنة سودة مع أن الرجل كان نائبا لرئيس الجمهورية يوما ما!) وحمدين إلخ.
الإلغاء الذي يمارسه أصدقاء الرئيس ومن يتغنون بالإنجازات الحالية للآخر الذي أنتمي إلى فصيل منه شيء مريع ، ولا يقود إلى شيء ، لا إلي تماسك ولا تقدم ولا مستقبل . بل يقود إلى رؤية "أحادية" مثل هذه الرؤي الأحادية في تنمية البلاد التي انزلقنا إليها وثبت أنها خاطئة وأوصلتنا إلى كارثة.
سنترك العسكرية والأمور التي من هذا النوع للعسكر والعسكريين ، من مينا الى رمسيس .. ولو أنني واثق من أن بعض هذه الأمور فيها كان واجبا مناقشتها باستفاضة .. فقد كنا هناك ، في الكويت في نهاية التسعينات تقريبًا عندما كان الشيخ جابر المبارك وزيرا للدفاع ، وتعرض لهجوم شرس من البرلمان الكويتي ، الذي اعترض على صفقة الطائرة الفرنسية المقاتلة من طراز "رافال "! ورفضت الكويت (ذلكالبلد ذو الجيش الصغير والتسليح العادي والخبرة القتالية غير الفائقة) ان تتعاقد مع فرنسا لشرائها لأنها بلا وزن عسكري مقارنة بمقاتلات مثل f16أو ميج 21. برلمان الكويت "العفي" - في ذلك الوقت - تصدى للصفقة وأفشلها.
الاعتراف بالأخطاء فضيلة لا يمارسها أصدقاء النظام ، لأسباب من بينها أنها قد تجير لصالح الإخوان! هذا لا ينبغي أن يجعلنا نسكت عن الأخطاء التي يرتكبها بعضهم .. خطأ سياسات فادحة في التعليم والصحة والاستيراد والاقتراض، وبيع شركات ومصانع الحديد والصلب مع أننا بحاجة اليها ، خطأ بيع شركات الأدوية التي نرى آثارها علينا كل لحظة .. خطأ بيع بنوك تمتلك أصولًا عديدة ، من دون إعلان او تفاصيل !
أن تكون فزاعة الخوف من الإخوان سببا في قبول "أصدقاء الدولة" لكل ما يأتي به أركانها من مسؤولين ومدراء ووزراء ، خوفا من تجيير الاخطاء لصالح الاخوان، أفكار يجب ان تتوقف ، فالمشهد الآن يقطع بخروج الإخوان منه تماما ، وتأثيرهم لا يزيد عن محاولة إشاعة مناخ رديء في البلاد .. الحقيقة أن الدولة تواجهه بأخطاء كارثية ، لا تدل على قوة الاخوان وإنما على ضعف الكوادر التي تتصدي له.
أغلبنا مع الجيش، وضد الاخوان ، ونرفض الإرهاب. وبالتالي فنحن مع الدولة ، ولكن الدولة هي التي ليست معنا، وإنما مع غيرنا من أصدقائها الذين يدافعون عنها بكل ما أوتوا من جدل ومفردات يرهبوننا بها .. مع أننا لسنا أعداءهم أو أعداء البلد باليقين! هؤلاء لا يقولون "لا" أبدًا .. مع ان الكلمة ليست عيبًا ولا سبة ولا خطيئة في هذا الزمن ، وإنما تفتح الأعين أمام صاحب القرار .. وهناك قاعدة ذهبية معروفة "المعارض يشد أزر المفاوض".. يالها من جملة ساحرة بتوقيع نقيب النقباء عمنا كامل زهيري.
ولعلي هنا أختم بما لا ينشغل به أصدقاء النظام .. أو أصدقاء الدولة أو أصدقاء الرئيس (مع اننا باليقين لسنا الاعداء وانما من المختلفين والمعارضين فقط) فأقول أنه فيما تتعرض له مصر من مخاطر ، سواء يقودها ترامب أو نتنياهو .. أو حتي الدول المتآمرة علينا ببجاحة ، وتلعب في الأفنية الخلفية لمصر ، من الحبشة إلى السودان وليبيا، فإننا نقول لمن يطالبون مصر بمواجهة العدوان الاسرائيلي والأميركي والأوروبي بالتبعية، علي غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة ، بأننا لا نستطيع بل ولا يجب أن نقوم وحدنا بخوض الحرب ضد العالم .. وحدنا ! لن تستطيع مصر، ولا يجب أن تقوم بهذا وحدها. وهذا ليس تخليًا عن نصرة أشقائنا. وإنما إدراك للأوضاع الدولية والعربية .. فأميركا وإسرائيل في مزاج للحرب، بينما أغلب قادة العالم العربي ليسوا كذلك ، وهذا ما أظهرته مشاركاتهم في القمم الطارئة وغير الطارئة .. ومزاج الحرب هو أول شروط القتال.. والواضح أن العربي في مزاج للترفيه ، بدليل استمرار "موسم الرياض" الشهير على وقع القتل الجهنمي، وانخراط السعودية والامارات في القبول باستثمارات تريليونية مع أميركا، وترتيبات جهنمية للأخيرة مع نيروبي ضد السودان، ومع إثيوبيا ضد مصر، ومع فصائل في ليبيا ضد كل ليبيا!
مرة أخرى ومرات عديدة.. مصر يجب أن تقدم الدعم لأشقائنا في فلسطين.. معنويًا وماديًا .. (ما أمكن ) دعمًا للغذاء، للعلاج، للدراسة. لا بأس.. أما خوض الحرب الذي يطالبنا به البعض أحيانا ، من منابر المساجد ، وفي خيام الطعام والدرس والتفسير ، ومطالباتهم لنا وحدنا بأن نستل مدافعنا ومدرعاتنا ومقاتلاتنا للحرب، فهذا يعني اننا سنحارب العالم ! عندما نفعل ذلك يجب أن يكون هناك توافق أولًا بين الأشقاء العرب على القتال ! ولكن السؤال الملح هو: ألا يجب أن يتوافقوا أولا على حضور القمة العربية!
----------------------------
بقلم: محمود الشربيني