01 - 05 - 2025

سامحونى.. تأخرت فى التفكير والكتابة!!

سامحونى.. تأخرت فى التفكير والكتابة!!

تلقيت دعوة كريمة من "النبيل" مجدى شندى للكتابة حول موضوع مهم.. حدده فى عنوان مقاله "نحن والغرب.. دعوة للتفكير والكتابة" كإطار يدور حوله حوار.. هنا تذكرت "الأستاذ" محمد حسنين هيكل عندما كتب فى مطلع الستينات عن "أزمة المثقفين" وفتح حول العنوان – الموضوع – حوارا.. تحول إلى سجال.. استمر لنحو تسعة أشهر.. شهدت خلاله هذه الفترة, عشرات المقالات بأقلام أساتذة كبار ومفكرين عظام.. وشكلت أفكارهم أرضية قام عليها "الميثاق الوطنى" وإعلان قيام "الاتحاد الاشتراكى العربى" وكانت إطارا لأكبر وأهم "حوار وطنى" جاد وحقيقى إستضافته جامعة القاهرة.. حضر أيام المؤتمر كلها الرئيس "جمال عبد الناصر" الذى ناقش وحاور كبار المثقفين فى هذا الزمان.. ولعل أبرز السجالات, تلك التى كانت بين الأستاذ "خالد محمد خالد" مطالبا بالديمقراطية.. وبين الرئيس الذى كان يجيد "الإصغاء" بقدر براعته فى الحديث.. إضافة إلى مناقشات أخرى مهمة, تم "دفنها" ضمن حملات تشويه "عبد الناصر" والنيل من "ثورة 23 يوليو" التى انتهت بوفاة "الزعيم" يوم 28 سبتمبر عام 1970!!

هنا يجب أن أتوقف عند "الميثاق الوطنى" الذى سخر منه عشرات من "حضرات السادة ضباط الثقافة" وأطلقت عليهم "جنرالات الثقافة" باعتبارهم يمارسون التفكير والكتابة كفعل عسكرى!! فهؤلاء فى أغلبيتهم لم يقرأوا "الميثاق" ولا يعرفون عنه سوى عنوانه.. واستمر قصفهم تجاهه بحثا عن رضا السلطة الجديدة التى تولاها "أنور السادات" وهى مستمرة فى حكم مصر منذ أكثر من نصف قرن, رغم تغير الرؤساء!! فقد تأسست هذه "السلطة" على شرعية ما كانوا يسمونه "ثورة 15 مايو" التى لم يبق منها غير "الكوبرى" الشهير!! كما أخذت هذه "السلطة" شرعيتها – ومازالت – من الهجوم على "عبد الناصر" ومحاولات شطب "ثورة يوليو" من الذاكرة الوطنية.. كما فعلت مع "بيان 30 مارس" وقد نال هجوما وتشويها غير عاديين.. والمثير أن الأغلبية الكاسحة من "جنرالات الثقافة" الذين أخذوا مكانتهم وحصدوا مكاسبهم من التصويب ضد "الثورة" والنيل من زعيمها.. وإذا سألت أحدهم عن فحوى "الميثاق" أو مضمون "بيان 30 مارس" ستجده يقفز فى حركة "بهلوانية" حتى لا يتورط, فينكشف أمره!!

عود على بدء إلى موضوع "نحن والغرب" والذى يطرح الانفصال الشبكى بين بقايا النخب المصرية والنخب فى الغرب.. فقد حدث هذا الانفصال عندما اختار "جنرالات الثقافة" فى مصر وعالمنا العربى – إلا قليلا – أن يكونوا كتيبة من "كتائب" السلطة.. لأن هذا المكان صنع مكانتهم وحقق لهم مكاسب ضخمة مع ثروات مذهلة.. فلم يعد بيننا مفكر أو كاتب يقدر على التواصل مع "سارتر" كما كانت تفعل "الأهرام" وترتب له حوارا فكريا مع رئيس الدولة.. ولم يعد بيننا أمثال "لطفى الخولى" الذى قام بترتيب لقاء بين "إريك رولو" والرئيس "عبد الناصر" ليتحول بعدها الكاتب الصحفى الفرنسى – مصرى الأصل – إلى صديق لمصر وزعيمها.. وقد سجل ذلك فى كتابه "كواليس الشرق الأوسط" الذى لا أظن أن "حضرات السادة ضباط الثقافة" قد سمعوا عنه أو قرأوه – إلا قليلا منهم – كما لم يعد لدينا مثقف وعالم كبير مثل "ثروت عكاشة" الذى أرسى قواعد نهضة فكرية وثقافية.. بقيت منها قصور الثقافة وبيوتها, مع أكاديمية الفنون وكل فرق المسرح وهيئة السينما التى لاقت مصيرها المعروف وهو يدمى القلب, بقدر ما يفرض علينا أن نرجو "دمع العين" كما كتب "بيرم التونسى" فى رائعته "الأولة فى الغرام" دون أن يأخذنى الشجن إلى "طه حسين" و"توفيق الحكيم" و"يوسف إدريس" و"عبد الرحمن الشرقاوى" مع كل التقدير لكل هذه الحبات من "الألماظ" التى كانت تزين جبين مصر والعالم العربى!!

يخطئ من يعتقد أن "الانفتاح" كان مجرد "انحراف" فى طريق اقتصادى فقط.. فقد كان "انفتاحا" أخذنا إلى "انحراف" فكرى وثقافى.. كما جرفنا إلى عمق أزمة مجتمعنا, الذى عاد يبحث عن نفسه وهويته.. ربما لأن "زمن الانفتاح" أخذنا إلى "ديمقراطية لها أنياب" كما صاغها صاحب الانفتاح.. وصولا إلى "المفرمة" كما اختار "أنور السادات" أن يتعامل بها مع معارضيه.. ورفع لواء هذا النهج أولئك الذين تم توظيفهم كمثقفين ومفكرين.. ولم يبق منهم سوى "أراجوزات" يتصدرون الواجهة, بعد استبعاد كل كاتب جاد أو مفكر حقيقى.. وهؤلاء يتعرضون لهجمات وقحة من "السفلة والسفهاء" الذين دخلوا الخدمة فيما نسميه "الكتائب الإلكترونية" لتصل مصر إلى حالتها التى جعلت "جهلة" بالمعنى الحقيقى للكلمة, يتحكمون فى مقدراتها.. سواء كان هؤلاء "الجهلة" مسؤولين أو "خدما" حولهم بدرجة كتاب ومفكرين!!

عندما جاء "طوفان الأقصى" انكشف الأمر وأصبحت الصورة شديدة الوضوح.. وجدنا أنفسنا فى حالة عجز كلى.. عجز اقتصادى.. عجز سياسى.. عجز فكرى وثقافى.. وعجز حضارى.. فلم نقدر حتى على إنصاف "المقاومة" بالصمت العاجز.. بل تحول رفض "المقاومة" إلى حالة صراخ ضدها, تقوده نخبة من رجال المال والدين تم تمكينهم من رقبة المجتمعات العربية.. فأصبحنا نقرأ إنصافا للمقاومة من صحفيين ومفكرين إسرائيليين كثر, بينهم "جدعون ليفى" الكاتب الصحفى الشهير.. وأصبحنا نطالع تظاهرات فى كل عواصم الغرب بما فيها "الولايات المتحدة الأمريكية" رفضا لحرب الإبادة "الصهيو- أمريكية" دون أن نسمع صوتا عربيا, سوى من "اليمن" وقليل من الرفض فى "الأردن" و"المغرب" غير ما تقدمه المقاومة فى "لبنان" و"العراق" وبقيت مصر لا تملك غير أن تلعب دور "الوسيط" مع "قطر" وتقبل تسمية "الجلاد الأمريكى" بأنه "وسيط"!!

وصلنا لهذه الحالة التى تعرفها بتفاصيلها كل "النخب" فى الغرب.. يدركها الساسة الذين يحكمون بخوف من جماعات الضغط الصهيونية, بعد أن تجذرت طوال وقت انسحابنا إلى داخل أنفسنا.. وعندما تصدر المشهد الذين يحملون "أختام الثروة" فى الخليج, فاعتقدوا بقدرتهم على قيادة العالم العربى بتفويض من "إسرائيل" التى اعتبروها حاملة مفاتيح استقرارهم داخل قصور الحكم.. والمؤسف أن بعضا من "بقايا النخب" عندنا استطاعوا المجاهرة بالدفاع عن إسرائيل وطعن المقاومة.. بل وصل الأمر إلى حد شيطنتها.. وهنا بلغنا قمة المأساة!!

تلخص الحالة سطور كتبها الصديق "أنور الهوارى" عن جهل بعض شبابنا بجريدة "الأهرام" ووجودها من الأساس.. فما كان من رئيس تحريرها الأسبق سوى وصفهم بأنهم "بهائم" ليخلص نفسه من مشاركته فى الجريمة التى جعلت بعضا من شبابنا لا يعرف "الأهرام" الجريدة, ولا أدرى إذا كانوا يقدرون قيمة "الأهرام" التى تمثل إحدى عجائب الدنيا السبع.. وبعدها قرأت سطورا أخرى كتبها الصديق "حمدى الحسينى" عن ضابط شرطة فى مطار القاهرة, لا يعرف "روزاليوسف" المجلة.. وهو بالتأكيد لا يعرف "روزاليوسف" المبدعة من لحم ودم, والتى أسست "المجلة" وتولى تطويرها "إحسان عبد القدوس" كأحد أهم مبدعى مصر وكبار كتابها ومفكريها عندما أسس "صباح الخير" بقيادة شاب – وقتها – هو "أحمد بهاء الدين" والذى أصبح فيما بعد أحد عناوين كبار الصحفيين والمفكرين!!

هنا سنجد الكارثة.. قد وقعت بالفعل!!

هنا نتذكر "أحمد بهاء الدين" القائل: "عندما يتحالف الجهل مع الفساد.. تقع الكارثة"!!

هنا سنجد أنفسنا أمام واقع يفرض عليك الذهول.. يجعل التفكير فيما يبدو حولنا, يمكن أن يأخذنا إلى الجنون.. كما قال مبدع كبير آخر – إدوارد خراط – ولو أننى تركت العنان لقلمى أن يتذكر قوافل المبدعين من ساسة وعلماء ومفكرين فى مصر, وعلى ضفافهم كان هناك ساسة وعلماء ومفكرين عرب.. سأجد نفسى قد اندفعت إلى عمق محيط من اليأس والإحباط.. لكننى أجدنى على العكس تماما.. لأن تاريخ مصر والمنطقة, علمنى أنهما يملكان مخزونا حضاريا وقدرات تمكنهما من النهوض واستعادة المكانة التى يستحقها العرب كلما كانت مصر قادرة على أخذ زمام القيادة والمبادرة, وهذا قدرها ومكانها اللذان حققهما علميا "جمال حمدان" و"جلال أمين" و"عبد الوهاب المسيرى" وغيرهم من علماء ومفكرين كان يحرص الغرب على متابعتهم والاستنارة بما يقدمون من فكر وعلم.. ولو أننا ظلمنا الغرب – وهو مأزوم أيضا – بأنه لا يتواصل معنا ولا يفهمنا.. سنكون كذلك الذى أطلق وصف "بهائم" على شباب لا يعرفون "الأهرام" كجريدة عريقة تفوح منها روائح الانتصار والانكسار على مدى نحو قرن ونصف!! وهنا سنكون اخترنا أن نتعامى عن مواقف لا تخطئها عين تصدر لصالح عروبتنا من عواصم غربية.. كما يحدث من "أيرلندا" التى قطعت علاقتها مع "إسرائيل" إنصافا للشعب الفلسطينى.. وكما حدث من "جنوب إفريقيا" و"كوبا" و"كولومبيا" و"فنزويلا" إلى جانب "أسبانيا" و"بلجيكا" وغيرها من الدول التى أنصفت قضية العرب الأولى – فلسطين – كما لم ينصفها العرب أنفسهم.. للحد الذى يجعلنا نراهم أشقاء بالمعنى الحقيقى للكلمة!!

أختصر حتى أصل إلى سر تفاؤلى بالمستقبل سواء كان قريبا أو ابتعد.. لأن الذى أعاد تشكيل الرأى العام الغربى وفى الكرة الأرضية, هم شباب أجيال جديدة.. حتى لو كان بعضهم لا يعرف "الأهرام" ولا "روزاليوسف".. وهى مسؤوليتنا كجيل اختار بعضنا أن يتطوع فى كتائب "حضرات السادة ضباط الثقافة" وذهب آخرون للخدمة فى "كتائب إلكترونية" ذاعت شهرتها بأنها "الذباب" بينما انكفأ الآخرون على أنفسهم.. وبقيت قلة قليلة تحاول أن تشعل شمعة.. وظنى أن "النبيل" مجدى شندى قد اختار هذا الطريق.. وقد تمنيت تأجيل الكتابة – وقد تأخرت – لما بعد هذه الأيام, التى تفرض انكسار النفس بما يفعله "جاهل عصامى" إسمه "ترامب" يحكم أكبر دولة فى العالم.. وما يفعله "مجرم حرب" إسمه "نيتنياهو" يفرض الرعب على كل الذين يتحكمون فى مصائر عالمنا العربى.. لكن نسائم المستقبل الذى أبشر به قادمة من ناحية "موسكو" و"بكين" دفعتنى للتعجيل فى تلبية الدعوة للكتابة.. وأستأذن فى عودة بعد ذلك لإطلالة أكثر عمقا!!
-----------------------------
بقلم: نصر القفاص

مقالات سابقة في ملف "نحن والغرب"

مقالات اخرى للكاتب

سامحونى.. تأخرت فى التفكير والكتابة!!